16 مارس، 2022
القانون الدولي الإنساني هو مجموعة من القواعد الدولية التي صاغتها اتفاقيات دولية والقواعد العرفية والتي تطبق في زمن النزاع المسلح من أجل تخفيف ويلات هذا النزاع والحد من آثاره. من أجل ذلك تتضمن أحكام هذا القانون قواعد خاصة تهدف إلى حماية الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية مثل المدنيين أو أفراد الخدمات الطبية، أو الذين توقفت مشاركتهم في الأعمال العدائية كالجرحى أو الأسرى كما يشتمل أيضاً على قواعد تهدف إلى حماية الأعيان والأموال التي ليست لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية كالأعيان المدنية أو الثقافية. بالإضافة إلى ذلك فإن القانون الدولي الإنساني يعمل على تقييد حق أطراف النزاع في استخدام ما يحلو لهم من أساليب ووسائل القتال لأسباب إنسانية.
وكما نعلم جميعاً فإن الإطار القانون لاتفاقيات القانون الدولي الإنساني يتكون من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 ولحقيها الإضافيين لعام 1977 بحسبان أنها تشكل القوام الرئيسي لهذا القانون، ويضاف إليها مجموعة من الاتفاقيات الأخرى كاتفاقية حماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة لعام 1954 وبروتوكوليها الإضافيين، أو اتفاقيات الحد من استخدام بعض الأسلحة، أو الاتفاقيات التي تجرّم إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة.
وفضلاً عن هذه القواعد التي أوردتها الاتفاقيات الدولية فإن هناك مجموعة من القواعد العرفية التي استقرت في مجال النزاعات المسلحة والتي شكلت عبر الأزمان ما يسمى بقواعد القانون الدولي العرفي الواجبة الاحترام من قبل جميع الدول.
وقد تم من خلال المحور الأول لهذا المؤتمر استعراض مفهوم جرائم الحرب، ووفقاً لذلك فلن نتعرض لمفهوم هذه الجرائم كما وردت بالاتفاقيات الدولية منعاً للتكرار ولكن نشير إلى أن مصداقية أي نظام قانوني وفاعليته تكمن في قدرته على معاقبة انتهاكات الأحكام التي أوردها، والقانون الدولي الإنساني لا يشكل استثناء من هذه القاعدة. والدليل على ذلك أن جميع اتفاقيات القانون الدولي الإنساني تلزم الدول الأطراف فيها بأن تتخذ الإجراءات التشريعية اللازمة لتتمكن بموجب تشريعاتها الوطنية من العقاب على أي انتهاك لأحكام هذه الاتفاقيات. وبغير هذا التدخل التشريعي تصبح أحكام هذه الاتفاقيات مجرد حبراً على ورق، إذا أنها أوردت على سبيل الحصر ما يمثل انتهاكات جسيمة لأحكامها أي جرائم الحرب وتركت لكل مشرع على الصعيد الوطني مهمة دمجها في تشريعاته العقابية ووضع العقوبات اللازمة لها إعمالاً لقاعدة الشرعية وبغير نص صريح يؤثم الفعل ويضع له العقوبة الملائمة فإن هذه الاتفاقيات بذاتها لا تصلح كقانون عقابي حتى ولو صدقت عليها الدولة.
وهذا أمر طبيعي بأن يكمل المشرع الوطني ما خلص إليه المشرع الدولي، إذ أن اتفاقيات جنيف عددت الانتهاكات الجسيمة وألزمت الأطراف بمعاقبة مرتكبيها، ولكن الاتفاقيات بذاتها لم تتضمن النص على العقوبات، فهي ليست معاهدات جنائية ولا يمكن أن تعتبر قانون عقوبات موحد، ومن ثم فإن تأثيم الانتهاكات وتحديد العقوبات يظل من اختصاص كل مشرع وطني. إذاً فموضوع التعديل الواجب إدخاله على التشريعات العقابية هو الوفاء بالتزام الدولة التعاقدي بمكافحة الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني ومعاقبة مرتكبيها. ويلزم على كل دولة أن تأخذ في الاعتبار عند إجراء هذا التعديل مجموعة من الاعتبارات تتمثل فيما يلي:
1- هناك أحكام خاصة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار عند صياغة قواعد تشريعية لقمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني وردت ضمن اتفاقيات جنيف ولحقيها الإضافيين.
2- إن اتفاقية النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإن كانت لا تلزم الدول الأطراف فيها أو غير الأطراف بسن تشريع وطني لقمع الجرائم التي وردت بها، إلا أن الدول الأطراف تلجأ إلى ذلك لتوفير السياج التشريعي الذي يحفظ أولوية الاختصاص لقضائها الوطني إعمالاً لمبدأ التكامل، كما أن الدول غير الأطراف لا يمكن أن تسقط من حساباتها مفهوم الجرائم كما ورد بنصوص هذا النظام عند إجراء تعديل تشريعي.
3- هناك اتفاقيات دولية أخرى نافذة في مجال القانون الدولي الإنساني بخلاف اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 ولحقيها الإضافيين تلزم الدول بسن تشريعات وطنية لمكافحة وقمع أي انتهاك لأحكامها.
وفيما يلي نعرض بإيجاز لكل اعتبار من هذه الاعتبارات الثلاثة:
إن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 واللحق الإضافي الأول لعام 1977 الخاص بالنزاعات المسلحة الدولية تلزم كافة الدول الأطراف فيها بسن تشريعات جنائية للعقاب على الأفعال التي أضفت عليها هذه الاتفاقيات وصف “الانتهاكات الجسيمة”. وعلى كل دولة موائمة تشريعاتها الوطنية بحيث تتمكن وفقاً للأحكام الخاصة الواردة في هذه الاتفاقيات بمعاقبة جرائم الحرب. ومفهوم جرائم الحرب وفقاً لاتفاقيات القانون الدولي الإنساني يؤثم مجموعة كبيرة من الانتهاكات الجسيمة على أساس المسؤولية الجنائية الفردية لمرتكبي هذه الانتهاكات.
وحتى يتواءم التشريع الوطني مع هذه الأحكام فإن القانون الدولي الإنساني يلزم التشريعات الوطنية بحد أدنى بما يلي:
ولا شك في أن بعض هذه الاعتبارات المتعلقة بالأحكام العامة للمسؤولية والضمانات الإجرائية متحققة في معظم التشريعات الوطنية للدول ولكن أحكام تأثيم الانتهاكات الجسيمة والتقادم ومبدأ الاختصاص الجنائي العالمي لم تحظ بذات الاهتمام من قبل المشرعين.
ووفقاً لاتفاقيات جنيف ولحقها الإضافي الأول، فإن الالتزام باعتماد أحكام عقابية لا ينطبق إلا على ما أوردته على سبيل الحصر كانتهاكات جسيمة، أو بمعنى آخر فإن هذا الوصف “جرائم الحرب” أو “الانتهاكات الجسيمة” لا ينطبق إلا على الأفعال التي ترتكب في زمن نزاع مسلح دولي. وبذلك يخرج من نطاق جرائم الحرب وفقاً لهذا المفهوم كل الانتهاكات الأخرى لأحكام هذه الاتفاقيات واللحق الإضافي الأول التي لا توصف بأنها انتهاكات جسيمة وكذلك الانتهاكات التي ترتكب في زمن نزاع مسلح غير دولي، فالالتزام الذي يقع على عاتق الدول بشأن الانتهاكات في هذه الحالة هو “اتخاذ التدابير اللازمة لوقف” هذه الانتهاكات (faire cesser)، فهي بحسب الاتفاقيات لا يلزم وضع عقوبات جنائية لها، يقع على عاتق كل دولة مسؤولية اتخاذ ما تراه مناسباً من التدابير التي تكفل “وقف” هذه الانتهاكات، وهذه التدابير قد تنصرف إلى إجراءات إدارية أو تأديبية أو حتى عقوبات جنائية وفقاً لجسامة الانتهاك.
ولكن إذا تعلق الأمر بانتهاكات جسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني في زمن نزاع مسلح غير دولي، فلا شك أن خير وسيلة لوقف هذه الانتهاكات هو تطبيق عقوبات جنائية على مرتكبيها. ولذلك فإن أفضل وسيلة، من الناحية العملية، لقمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني هو النص صراحةً على معاقبة مرتكبيها في زمن النزاع المسلح بغض النظر عما إذا كان هذا النزاع المسلح دولي أو غير دولي.
وأزعم أن هذا الحل من الناحية العملية، في ظل غياب نص صريح بذلك في الاتفاقيات والبروتوكولين، يسمح بالتطبيق الأمثل لأحكامهما وبصفة خاصة المادة “3” المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربعة واللحق الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف لعام 1977، والذين يشكلون الإطار القانوني والحاكم للنزاعات المسلحة غير الدولية والتي أصبحت تسبب أعداد من الضحايا تفوق بكثير ما قد يسببه نزاع مسلح دولي.
وأستند في بسط ذات الحماية الجنائية المقررة للنزاعات الدولية على النزاعات المسلحة غير الدولية على ما خلص إليه القضاء الدولي من أن القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني تقرر المسؤولية الجنائية الفردية عن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكب في زمن نزاع مسلح غير دولي.
وهذا المبدأ أيضاً أقرته بعض المحاكم الوطنية ورد ضمن التشريعات الوطنية لبعض الدول.
فضلاً عن ذلك، فإن المادة “8” من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي تعرف جرائم الحرب التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية أوردت الجرائم التي ترتكب في زمن نزاع مسلح غير دولي ضمن جرائم الحرب.
والحديث عن أن نظام روما قد أخذ بمفهوم أوسع لجرائم الحرب لا يمكن إغفاله عند تحديد مفهوم جرائم الحرب على النحو الذي سنورده تفصيلاً في النقطة التالية.
بموجب اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ودخوله حيز النفاذ خرج إلى حيز الوجود جهاز قضائي دولي دائم يختص بالعقاب على الجرائم الجسيمة التي تمس المجتمع الدولي، وهي الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
وإذا كانت الدول التي صدقت على هذا النظام الأساسي لها مصلحة في مواءمة تشريعاتها الوطنية مع نظام روما حتى تحتفظ بأولوية الاختصاص لقضائها الوطني إعمالاً لمبدأ التكامل، فإن هذه الدولة تكون دائماً حريصة على الأخذ بمفهوم جرائم الحرب كما ورد بالمادة “8” من نظام روما.
ولكن ما هو موقف الدول التي لم تصدق على نظام روما، هل عند مواءمة تشريعاتها العقابية مع أحكام القانون الدولي الإنساني تتقيد بمفهوم جرائم الحرب كما ورد باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 ولحقها الإضافي الأول، أم تأخذ بالتعريف الوارد بنظام روما على الرغم من أنها ليست طرفاً فيه؟
وللإجابة عن هذا التساؤل يجب أن أشير بدايةً إلى أن ما تم التوصل إليه كمفهوم لجرائم الحرب في المادة “8” من النظام الأساسي هو ما استقرت عليه الاتفاقيات الدولية ذات الصلة والقواعد العرفية بشأن الأفعال التي تشكل جرائم حرب.
وما ورد بالمادة سالفة الذكر يعتبر في حقيقة الأمر تعريفاً تفصيلياً للأفعال التي أوردتها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 ولحقها الإضافي الأول وما استقر بموجب الاتفاقيات الدولية الأخرى وأعراف القتال.
إذاً لا خلاف بشأن الجرائم التي ترتكب في زمن النزاع المسلح الدولي بينهما، ومن ثم يكون من الأوفق أن يؤخذ بالتعريف الوارد بالمادة “8” من النظام الأساسي لأن ذلك يحقق الاعتبارات التالية:
هذا فيما يتعلق بالجزء الخاص بالجرائم التي ترتكب في زمن النزاع المسلح الدولي، أما ما استحدثته هذه المادة من النص على مجموعة من جرائم الحرب التي ترتكب في زمن النزاع المسلح غير الدولي، فإنني أميل إلى الرأي القائل بأن هذه النزاعات غير الدولية أصبحت على قدر من الخطورة يفوق في بعض الأحيان ما ترتبه النزاعات المسلحة الدولية، وأن هناك اتجاه كبير من الفقه تسانده أحكام المحاكم الدولية والوطنية والتشريعات الوطنية على نحو ما أسلفنا يرى ضرورة انطباق ذات الحماية القانونية المقررة للنزاعات الدولية على النزاعات المسلحة غير الدولية.
والخلاصة إذاً في هذا الشأن أنه يكون من الأفضل عند مواءمة التشريعات الوطنية مع أحكام القانون الدولي الإنساني في الدول التي لم تصدق على نظام روما أن يأخذ المشرع بما أوردته المادة “8” من نظام روما بحسبان أنه يعكس إرادة الدول أطراف المجتمع الدولي التي شاركت في صياغتها وبحيث يكون التشريع الوطني متفقاً مع آخر المتغيرات على الساحة الدولية في هذا الشأن.
فضلاً عما ورد باتفاقيات جنيف ولحقيها الإضافيين فإن هناك مجموعة أخرى من الاتفاقيات الدولية تستلزم اتخاذ تدابير تشريعية على الصعيد الوطني، وسوف أشير إليها بإيجاز بحيث تكون كافة العناصر التي يتضمنها موضوع التعديل التشريعي مطروحة أمام حضراتكم، وهي على النحو التالي:
وبعد استعراض هذه الأحكام نكون قد ألمحنا إلى أهم النقاط الرئيسية التي تتعلق بموضوع التعديل التشريعي،