1- الآليات السلمية لحسم النزاعات الدولية

إذا كان هدف اللجنة الدولية هو حماية ومساعدة أولئك الضحايا أليس من الأوفق أن تعمل اللجنة الدولية- في المقام الأول- على منع نشوب النزاع المسلح عن طريق استخدام وضعها المحايد في محاولة التوصل إلى حلول سلمية للنزاعات الدولية وغير الدولية قبل أن يتفاقم الوضع ويتحول إلى نزاع مسلح. هذا ما سوف نحاول أن نجيب عليه فيما يلي.

يعد ميثاق الأمم المتحدة المصدر الرئيسي للقواعد القانونية التي تنظم اللجوء إلى القوة المسلحة Jus ad bellumوتحظر المادة (2/4) من الميثاق على الدول اللجوء إلى القوة أو التهديد باللجوء إليها في إطار العلاقات الدولية، ويعد هذا الحظر من قواعد القانون الدولي الآمرة Jus cogens. إلا أن الميثاق لا يعتبر- وفقًا لنص المادة 51- أن اللجوء إلى القوة عمل غير مشروع في حالة الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي ضد الهجمات التي تهدد استقلال الدول أو ترابها الوطني، كما يسمح الميثاق – في فصله السابع- للدول باستعمال القوة في إطار عمل جماعي من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو من أجل استعادتهما.

ويدعو ميثاق الأمم المتحدة الدول الأطراف في أي نزاع من شأن استمراره تهديد السلم والأمن الدوليين إلى حل هذا النزاع بطريق المفاوضات أو التحقيق أو الوساطة أو التوفيق والتحكيم أو التسوية القضائية، أو أن يلجئوا إلى الوكالات أو الترتيبات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية.

لا يتناول هذا المبحث الوسيلتين القانونيتين لفض النزاعات بطريقة سلمية أي التحكيم والقضاء الدولي فهاتان الآليتان تخرجان عن نطاق هذه الدراسة، وإنما تقتصر الدراسة هنا على تناول المساعي التي قد تبذلها الهيئات المختلفة وبصفة خاصة في ما يعنينا هنا اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لمنع نشوب النزاعات المسلحة من خلال آلية الوساطة وحدها.

وعادة ما تتمثل الوسائل السلمية لفض النزاعات في التفاوض الذي قد يتم بمساعدة طرف ثالث، وقد يكون هذا الطرف الثالث دولة، أو منظمة دولية أو إقليمية. ويتخذ تدخل الطرف الثالث عدة أشكال كالمساعي الحميدة، أو الوساطة، أو التوفيق، وقد لا يتخذ أي شكل رسمي معين بحيث يتم في إطار ممارسة الطرف الثالث لمهامه المعتادة.

وبجانب الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية لمنع نشوب النزاعات المسلحة، تعد المنظمات غير الحكومية والمنظمات الإنسانية من الجهات التي تلعب دورًا كبيرًا في منع نشوب النزاعات المسلحة نظرًا لانخراطها في العمل في مناطق التوتر ومعرفتها الجيدة بالظروف التي تحيط هذه المناطق. إذ تمتلك هذه المنظمات المعرفة الجيدة بالمجتمعات المحلية والثقافات السائدة أكثر من غيرها من الجهات الخارجية التي يمكن أن تبذل جهودًا من أجل منع نشوب النزاعات المسلحة.

2- تطوير دور الوساطة الذي تنهض به اللجنة الدولية للصليب الأحمر

أ- وتتمثل الإشكالية الرئيسية التي تواجه المنظمات الإنسانية، وبصفة خاصة اللجنة الدولية، في العمل من أجل منع النزاعات المسلحة وخاصة الداخلية منها، في الحاجة إلى الحفاظ على الحياد الكامل تجاه المتحاربين، وعدم التمييز بين الضحايا.

ب- ومنذ ظهور اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1863 وحتى عام 1919 لم تلعب أي دور جوهري في مجال حفظ السلام، حيث كانت تركز جهودها في العمل الإنساني المتعلق بحماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة، ومع ظهور رابطة جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في عام 1919، بدأت الحركة الدولية للصليب الأحمر ككل اتخاذ خطوات للعمل من أجل إحلال السلام. وكانت أول خطوة في هذا الصدد هي قيام اللجنة الدولية ورابطة جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر- بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى- بتوجيه نداء إلى البشرية يدعو إلى مكافحة روح الحرب التي ما زالت منتشرة في جميع أنحاء العالم.

ج- وظلت اللجنة الدولية حريصة- حفاظًا على حيادها- على عدم التدخل في المفاوضات السياسية التي تهدف إلى منع نشوب النزاعات المسلحة، وظل الحال كذلك حتى وجدت اللجنة الدولية نفسها لاعبًا أساسيًا في أزمة الصواريخ الكوبية.

ففي عام 1962 وبناء على مبادرة من اللجنة الدولية تعرب فيها عن استعدادها للمساهمة بأي شكل في جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سلمي لأزمة الصواريخ الكوبية، وبعد موافقة الدول المعنية تم الاتفاق على أن ترفع الولايات المتحدة الحصار البحري الذي فرضته على السفن الروسية المتجهة إلى كوبا لمنع وصول أسلحة نووية إلى هذه الأخيرة، والاستعاضة عن هذا الحصار بتفتيش السفن الروسية المتجهة إلى كوبا بواسطة موظفين تعينهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر للتأكد من خلوها من أية أسلحة نووية على أن يستمر هذا التفتيش لحين فك الصواريخ القادرة على حمل أسلحة نووية ونقلها إلى خارج كوبا.

وإن كانت اللجنة الدولية لم تباشر بالفعل أعمال التفتيش حيث تم نقل الصواريخ إلى خارج كوبا قبل القيام بأي تفتيش، إلا أن هذه الواقعة تعد سابقة لم تتكرر في شأن تدخل اللجنة الدولية في أعمال سياسية بحتة لا تمت للعمل الإنساني بصلة، وقد انتُقد تدخل اللجنة الدولية في أزمة الصواريخ الكوبية على أساس أن تدخلها في شؤون سياسية قد يفقدها صفة الحياد وهي صفة ضرورية ولازمة لقيام اللجنة الدولية بدورها الرئيسي في مجال العمل الإنساني.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1962 أصدرت اللجنة الدولية كتابًا دوريًا يخاطب الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر تشرح فيه الأسباب التي دفعتها إلى تقديم خدماتها في أزمة الصواريخ الكوبية وجاء في هذا الخطاب أن اللجنة الدولية لم تتخذ قرار قبول قيامها بالمساعدة في عملية تفتيش السفن الروسية دون أن تضع في اعتبارها أن القيام بهذا العمل يخرج عن نطاق وظيفتها الإنسانية التقليدية ولكن دفعها إلى قبول القيام بهذا الدور عدة عوامل أهمها أن هذا الطلب قدم إلى اللجنة الدولية باعتبارها الجهة الدولية الوحيدة القادرة في ظل هذه الظروف شديدة الجسامة أن تقوم بعمل من شأنه حفظ السلام في العالم، وأنه في ظل أزمة الصواريخ الكوبية كان يوجد من الأسباب ما يخشى معه اندلاع حرب نووية تحصد عددًا غير محصور من الأرواح وتتسبب في معاناة شديدة للعديد من البشر، بالإضافة إلى أن المبادئ الأساسية للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر أوكلت إلى هذه الحركة العمل على تدارك وتخفيف معاناة البشر في كل الأحوال وتشجيع التعاون وتحقيق سلم دائم فيما بين جميع الشعوب.

وقد أصدر مجلس مندوبي الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر قرارًا يصادق فيه على تصرف اللجنة الدولية في أزمة الصواريخ الكوبية وهنأها عليه معتبرًا أنه من المرغوب فيه أن تستجيب اللجنة الدولية إلى مطالبة أطراف النزاع لها بالعمل كوسيط محايد أو تقديم العون من أجل حفظ السلام.

د- وفي عام 1965 شجع المجتمع الدولي- من خلال القرار العاشر للمؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر والذي انعقد في فيينا عام 1965- اللجنة الدولية على أن تبذل، بالتعاون المستمر مع الأمم المتحدة وفي إطار مهمتها الإنسانية، كل جهد من شأنه أن يساعد على منع أو تسوية النزاعات المسلحة وأن تسعى بالاتفاق مع الدول المعنية إلى الوصول إلى هذا الهدف باستخدام أية آلية مناسبة.

وفي عام 2002 اعتمد مجلس جمعية اللجنة الدولية خطوطًا توجيهية لبيان دور اللجنة الدولية في منع النزاعات المسلحة، وجاء في هذه الخطوط التوجيهية أن اللجنة الدولية تشعر أن دورها الأساسي هو حث الدول على اتخاذ التدابير الضرورية للوفاء بالتزاماتها، وأن تقوم- كلما كان ذلك مناسبًا- بمساعدة الدول في هذا الإطار بمدها بالمعلومات والدراسات اللازمة، وأنه نظرًا للقيود التي يفرضها مبدأ الحياد، فإن اللجنة الدولية لا تستطيع أن تلعب دورًا في المفاوضات السياسية التي تهدف إلى تجنب نزاع مسلح وشيك ولكن يمكن أن تقوم اللجنة الدولية بإسهام فعال في مثل هذه الحالات عن طريق الدبلوماسية الإنسانية الوقائية، والمساعي الحميدة، واستخدام وضع اللجنة كوسيط محايد.

وبعد أن أشارت هذه الخطوط التوجيهية إلى أن قيام اللجنة الدولية بهذا الدور يتماشى مع روح القرار العاشر للمؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر المنعقد في فيينا عام 1965 السابق الإشارة إليه، أكدت هذه الخطوط العامة أنه على الرغم من ذلك، فإن اللجنة الدولية لن تتخذ أي مبادرة يمكن أن تتسبب في قيام أحد أطراف النزاع بمنع الوصول إلى ضحايا هذا النزاع، أو تتسبب في تعريض مندوبي أو موظفي اللجنة الدولية للخطر.

هـ- ويمكن القول بصفة عامة إن اللجنة الدولية- حفاظًا على حيادها- لا تنخرط في المفاوضات السياسية التي تهدف إلى تجنب النزاعات المسلحة، ولكنها قد تدخل في وقت لاحق بعد انتهاء هذه المفاوضات من أجل المساعدة في تنفيذ اتفاقيات السلام متى وافقت على مثل هذه المساعدة كافة الأطراف المعنية وما دام مثل هذا التدخل لا يضر بمصلحة ضحايا النزاع ولا يعرض موظفي اللجنة الدولية للخطر، ومن الأمثلة الحديثة على قيام اللجنة الدولية بهذا الدور هو ما أعلن في أبريل/ نيسان عام 2006 من أنه وبناء على طلب الأطراف القائمة على مبادرة السلام بين حكومة كولومبيا وجيش التحرير الوطني، وبعد موافقة حكومتي كولومبيا وفنزويلا قام مندوبون عن اللجنة الدولية بمرافقة أعضاء من جيش التحرير الوطني في رحلة الذهاب من فنزويلا إلى كولومبيا في 17 أبريل/ نيسان 2006 وكذلك في رحلة العودة في 21 أبريل/ نيسان، وكانت الطائرات التي استخدمت في هذه الرحلة والمستأجرة بمعرفة أصحاب مبادرة السلام تحمل شعار اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

وعند ذلك الحد، نكون قد فرغنا من تحليل دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أجل حماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة.

Menu