التمييز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية هو من أهم المبادئ التي أوردها القانون الدولي الإنساني، وقد ورد تعريف الهدف العسكري بأنه هو الهدف الذي بطبيعته، وبالنسبة لموقعه، وغرضه، أو استخدامه يساعد في العمل العسكري، والذي يحقق تدميره كليًا أو جزئيًا أو الاستيلاء عليه أو تحييده ميزة عسكرية (المادة 52 من البروتوكول الأول).

ومن الثابت أن الأهداف العسكرية فقط هي التي يمكن أن تكون هدفًا للعمليات الحربية والهجوم من قبل الطرف الآخر، وحتى عند مهاجمة هذه الأهداف يجب اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة بواسطة كل طرف عند إعداد وتنفيذ الهجوم عليها، إذا كان من شأن ذلك الإضرار بالأعيان المدنية.

وعلى عكس ما ذهبت إليه اتفاقيات جنيف من تعريف الهدف العسكري وتحديده على وجه دقيق، أوردت تعريف الأعيان المدنية بأنها كل ما لا يعد هدفًا عسكريًا، وبذلك التعريف الواسع تتمتع الأعيان والممتلكات المدنية بحماية خاصة أثناء العمليات العسكرية، وحتى تحت الاحتلال الحربي. ولعل هذا النهج الذي سلكه المشرع الدولي في تعريف وتحديد الهدف العسكري بدقة، وتعريف الأعيان المدنية بمفهوم المخالفة لذلك باعتبارها ما هو ليس هدفًا عسكريًا، يعطي الحماية الأوسع للأعيان المدنية. ويتحقق بذلك أيضًا قرينة الحماية فيكون الأصل في الأعيان والممتلكات أنها مشمولة بالحماية إلى أن يثبت العكس بإثبات أنها هدف عسكري.

إن الهجوم على أهداف عسكرية مشروعة أمر قانوني وطبقًا للبروتوكول الإضافي الأول إذا استخدمت الأعيان المدنية في دعم مباشر لعمل عسكري يجوز تدميرها  مع مراعاةـ في جميع الأحوال- أنه ليست هناك ثمة ضرورة تقتضي توجيه الأعمال العدائية ضد غير المقاتلين من السكان المدنيين وأعيانهم.

وهنا تبرز فكرة الضرورة العسكرية التي تضفي شرعية على العمليات العسكرية التي تباشرها الدولة ما دامت هذه العمليات في إطار قوانين الحرب. وجدير بالذكر أن الضرورة العسكرية لا تحددها نصوص القانون إنما الضرورة على أرض الواقع أو التي يمليها سير العمليات العسكرية، فالنصوص القانونية ليست هي المعيار الذي يعول عليه لتقييم شرعية العمليات الحربية لكن يلجأ إلى الضرورات العسكرية ذاتها لتقييم ذلك. وبذلك تفرض الضرورات العسكرية قيودًا على نفاذ القانون دون أن يكون للقانون أثرًا عليها، وقد جاء في ديباجة تعليمات لاهاي 1907 النص على أن التعليمات تصطبغ وتهيمن عليها روح الرغبة في تقليل شرور الحرب بقدر ما تسمح به روح الضرورة العسكرية. وحال إثبات الضرورة العسكرية فإنها تعتبر مانعًا من موانع المسؤولية الجنائية للجاني في حال توفرها،ونذكر في هذا الصدد بأنه لا يوجد تعريف في نصوص القانون الدولي الإنساني للضرورة العسكرية، وإنما هي من المسائل الموضوعية التي يقدرها قاضي الموضوع، فما قد يعد من الضرورات العسكرية في واقعة ما، قد لا يعد كذلك في واقعة أخرى لاختلاف الظروف، وهو ما تقدره جهة المحاكمة في كل حالة على حدة.

فالجيوش الميدانية تقاتل تنفيذًا لمهامها العملياتية وفق خطط مدروسة مسبقًا ومصدقًا عليها من القيادات العسكرية الأعلى ومن ثم فإنه لا يجوز لأي قوات مسلحة أن تخطط عسكريًا لعملياتها القتالية بما يخالف قواعد القانون الذي صادقت عليه ولضمان سلامة هذه الخطط من أية مخالفة للقانون الدولي الإنساني الذي قد تغيب دقائق أحكامه عن بعض القادة فإن عددًا من الدول تتطلب أن يوقع المستشار القانوني للقائد على خطة العمليات قبل التصديق عليها لضمان اتفاقها مع القانون الدولي وعدم وقوع ثمة انتهاكات جسيمة له عند تنفيذها.

هذا وقد تدور معارك ميدانية تفرضها ظروف قتال طارئة يتخذ فيها القائد المحلي قراره مباشرة وفي غير متسع من الوقت وقد تواجهه ضرورات حربية تكون مؤثرة في قرارها مثل ضرورة منع القوات المعادية من العبور على جسور مدنية أو من خلال طرق في قرى أو مدن آهلة بالسكان أو تدمير محطات قوى تستخدم في دعم العمليات العسكرية للعدو، إلخ. إن اتفاقيات جنيف قد سلمت بوجود مثل هذه الضرورات الحربية التي قد تمليها ظروف القتال وجعلت منها مبررًا لبعض الانتهاكات الجسيمة لأحكامها فقد نصت المواد 50، 51، 17  من الاتفاقيات الأولى والثانية والرابعة على الترتيب على أن تدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع يعد انتهاكًا جسيمًا لهذه الاتفاقيات ما لم تبرره الضرورات الحربية.

بينما لا نجد نصوصًا مماثلة تجعل الضرورة الحربية تبرر المخالفات الجسيمة الأخرى التي ترتكب ضد الأشخاص المحميين مثل القتل العمد أو التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية أو إجراء التجارب الخاصة بعلم الحياة أو تعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة ومن ثم لا يجوز الاحتجاج بالضرورة الحربية لتبرير الانتهاكات الجسيمة سالفة البيان.

ومن الأهمية بمكان وقد استعرضنا مبدأ التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية أن نتطرق بإيجاز إلى بعض المبادئ الرئيسية ذات الصلة بأساليب ووسائل القتال والتي نرى أنها ترتبط بحماية الأعيان المدنية.

(أ) حظر الهجوم العشوائي:

الهجوم هو ذلك الذي يتمثل في ضرب الأهداف العسكرية والأهداف المدنية أو المدنيين بلا تمييز، لكونه مثلًا غير موجه إلى هدف عسكري محدد، أو نتيجة لاستخدام وسيلة أو سلاح لا يمكن تحديد آثاره، والمستقر في القانون الدولي الإنساني حظر الهجوم العشوائي الذي:

  1. يعتبر هدفًا عسكريًا واحدًا عددًا من الأهداف العسكرية الموجودة في إحدى المدن أو القرى أو أي مكان آخر التي تحتوي أيضًا على مدنيين أو أهداف مدنية.
  2. يترتب عليه خسارة كبيرة للمدنيين أو للأهداف المدنية تتجاوز بكثير الميزة العسكرية المتوقع تحقيقها.

(ب) مبدأ عدم الإضرار بالحقوق المقررة للأماكن والأعيان المحمية عن طريق عقد اتفاقات خاصة:

معنى ذلك أنه لا يجوز- عن طريق الاتفاق- النزول عن الحد الأدنى المقرر لحماية تلك الأماكن والأعيان. لذلك مثلًا لا يجوز عن طريق الاتفاق إباحة ضرب المستشفيات.

(ج) فقدان أو تعليق الحماية المقررة للأشياء المشمولة بالحماية:

تنص اتفاقات القانون الدولي الإنساني- عادة- على فقدان أو تعليق تلك الحماية، خصوصًا في الحالتين الآتيتين:

أولًا: استخدام تلك الأشياء أو الممتلكات في الأغراض العسكرية (مثال ذلك م8 من اتفاقية لاهاي لعام 1954، م52 من البروتوكول الأول لعام 1977).

ثانيًا: إذا حتمت ذلك الضرورات العسكرية القهرية (م4، 11 من اتفاقية لاهاي 1954، م52 من البروتوكول الأول 1977، م6، 13 من البروتوكول الثاني لعام 1999 الملحق باتفاقية لاهاي 1954). وتعني الضرورة العسكرية اتخاذ أو ارتكاب كل ما هو ضروري لتحقيق أهداف الحرب. وتشكل حالة الضرورة بصفة عامة، وفي إطار القانون الدولي الإنساني بصفة خاصة، خروجًا على القواعد واجبة التطبيق في الظروف العادية. ويقتضي ذلك أن تكون هناك أحوال وظروف ملجئة وقهرية تحتم هذا الخروج، إذ القاعدة تقرر أن “الضرورة تقدر بقدرها” كما أن ذلك يبرره مبدأ “التناسب” وهو مبدأ يجب مراعاته حتى أثناء النزاعات المسلحة.

(هـ) مبدأ الشك يفسر لصالح الشخص المحمي أو العين المحمية:

قد يثور شك حول ما إذا كان شخص ما له حق التمتع بالحماية المقررة أم لا، في هذه الحالة القاعدة هي تمتعه بالحماية إلى أن يثبت العكس. مثال ذلك أن يقع شخص من أفراد العدو في قبضة الطرف الآخر، دون أن يكون معه إثبات شخصيته، فهل يعامل كأسير أم لا؟ القاعدة هي اعتباره أسيرًا إلى أن يثبت عكس ذلك.

في هذا الخصوص تنص المادة 5/2 من الاتفاقية الثالثة:

“وفي حالة وجود أي شك بشأن انتماء أشخاص قاموا بعمل حربي وسقطوا في يد العدو في إحدى الفئات المبينة في المادة 4، فإن هؤلاء الأشخاص يتمتعون بالحماية التي تكلفها هذه الاتفاقية لحين البت في وضعهم بواسطة محكمة مختصة”.

كذلك تنص المادة 50/1 من البروتوكول الأول على أنه:

“وإذا ثار شك حول ما إذا كان شخص ما مدنيًا أم غير مدني فإن ذلك الشخص يعد مدنيًا”.

تجدر الإشارة أن الشك أيضًا يجب أن يفسر لصالح الأشياء المحمية. إذ تتمتع بالحماية المقررة إلا إذا تم التأكيد، بطريقة جازمة وبما لا يدع مجالًا لأدنى شك، أنها ليست كذلك.

في هذا المعنى تنص المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977:

“إذا ثار الشك حول ما إذا كانت عين ما تكرس عادة لأغراض مدنية مثل مكان العبادة أو منزل أو أي مسكن آخر أو مدرسة، إنما تستخدم في تقديم مساهمة فعالة للعمل العسكري، فإنه يفترض أنها لا تستخدم كذلك”.

(و) حظر مهاجمة المناطق التي لا توجد قوات للدفاع عنها أو منزوعة السلاح أو المحايدة:

يقصد بالمناطق التي لا توجد قوات للدفاع عنها تلك المعرضة لأن يحتلها العدو أو التي توجد في منطقة تتقارب فيها القوات المسلحة للطرفين. ويمكن- بإعلان انفرادي يوجه للطرف الآخر أو عن طريق الاتفاق بين الطرفين- إنشاء مثل تلك المناطق، بشروط، منها:

  1. أن يتم إجلاء جميع المقاتلين والعتاد العسكري،
  2. عدم استخدام المنشآت العسكرية الثابتة في الأعمال العدائية،
  3. عدم ارتكاب أي عمل عدائي من قبل السلطات أو المدنيين في تلك المناطق،
  4. عدم اتخاذ أي تعزيز أو مساعدة للعمليات العسكرية (المادة 59 من البروتوكول الأول).

تجدر الإشارة أن المادة 60 من البروتوكول الأول تنص- بخصوص المناطق منزوعة السلاح على شروط تقترب كثيرًا من تلك المقررة للمناطق التي لا توجد قوات للدفاع عنها.

كذلك تبيح المادة 15 من الاتفاقية الرابعة، عن طريق الاتفاق، إنشاء مناطق محايدة في المناطق التي يدور فيها القتال وذلك من أجل تجنيب الجرحى والمرضى وكذلك المدنيين الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية ويلات الحرب.

Menu