bx-arrow-back المقالات

20 مارس، 2022

الجوانب الدستورية للتصديق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

لجأت العديد من الدول إلى تفسير الأحكام الدستورية على نحو يتوافق مع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بحيث تتفادى الأعباء المتمثلة في تعديل الدستور وما يترتب عليه من تأخير يعيق التصديق، وهذا حال كثير من الدول التي صدقت على النظام الأساسي.

ولكن هذا الأسلوب يتطلب الحظر الشديد من جانب مؤيدي المحكمة الجنائية الدولية بحيث لا تفسر الأحكام الدستورية على نحو لا يتوافق مع أحكام الدستور ذاته.

الجوانب الدستورية

وإذا كانت بعض الدول قد لجأت إلى أسلوب التفسير فإن دول أخرى قد طرحت مباشرةً مسألة الجوانب على المحاكم أو المجالس الدستورية المختصة والتي حسمت الأمر بضرورة إجراء تعديل دستوري قبل التصديق وهو حال فرنسا ولوكسمبرج، أو حددت أموراً يلزم إجراء تعديل دستوري بشأنها في أول فرصة مع عدم الممانعة في التصديق كما حدث في بلجيكا التي صدقت على النظام الأساسي وحددت في ذات الوقت الأحكام الدستورية واجبة التعديل.

وأياً ما كان عليه منهاج الدول فلا شك أن اختلاف النظم الدستورية واختلاف الدساتير في كل دولة عن الأخرى لا يسمح لنا بالقطع بأن هناك أحكاماً ثابتة تصلح للتطبيق بشأن التصديق على النظام الأساسي، وإنما تختلف الرؤية من دولة إلى أخرى.

وسوف نعرض من خلال هذه الورقة للنقاط المذكورة سالفاً من خلال رؤية تفسيرية وآراء المجالس أو المحاكم الدستورية التي تعرضت لهذه النقاط، وحسمت رأيها بشأن ضرورة إجراء تعديل دستوري من عدمه.

1- هل يشكل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مساساً بالسيادة الوطنية؟

أثار البعض الرأي بأن المادة (4) من النظام الأساسي الخاصة بممارسة المحكمة لوظائفها وسلطاتها يمثل انتهاكاً للسيادة الوطنية للدولة بالسماح لجهة أجنبية بممارسة اختصاص أصيل مرهون بسلطاتها القضائية.

وبخصوص هذا الشأن نشير بدايةً لما ورد بالفقرة العاشرة من ديباجة النظام الأساسي والتي تؤكد على أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية. وهي ذات العبارة التي وردت صراحةً في المادة الأولى من هذا النظام.

على حين نصت المادة (17) من النظام الأساسي على أن المحكمة الجنائية الدولية لا تحل محل الاختصاصات القضائية الوطنية، وإنما تتدخل حصراً حينما لا تتوافر لدى الدول الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك.

وعليه فإن نظام روما يشجع الدول على ممارسة سلطاتها القضائية على الجرائم الداخلة ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، ولا يجوز للمحكمة ممارسة سلطاتها القضائية إلا إعمالاً للأحكام الواردة في المادة (17).

وحقيقة الأمر أن هذه الاتفاقية المنشأة بمعاهدة دولية يتجسد فيها المبدأ الأساسي في قانون المعاهدات “مبدأ الرضائية”، فالدول في هذه الحالة لا تتعامل مع “محكمة أجنبية” أو “ولايات قضاء أجنبي” وإنما تتعامل مع جهاز قضائي دولي شاركت في إنشاءه كدولة طرف وتساهم في الإجراءات الخاصة بتسييره باعتبارها أحد أعضاء جمعية الدول الأطراف كتعيين القضاة مثلاً. ومن هنا فلا يمكن القول بأن الدولة تتنازل عن الاختصاص لولاية قضاء أجنبي وإنما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية امتداداً لولاية القضاء الوطني. إذ أن الأصل أن كل دولة ملزمة بمحاكمة مرتكبي الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام ومن ثم فلا ينعقد الاختصاص للمحكمة الدولية إذا قامت الدولة بواجبها في الاضطلاع أو المحاكمة أما إذا لم ترغب الدولة أو كانت غير قادرة على الاضطلاع بواجبها فإنها تحيل بذلك اختصاصها إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ونخلص من ذلك إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تمثل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول، بل أن الدول الأطراف ذاتها هي التي أنشأتها بإرادتها بموجب اتفاقية دولية نص عليها صراحةً على أن المحكمة ذات اختصاص تكميلي وليس سيادي على القضاء الوطني.

وتأييداً لهذا الرأي فقد ذهب المجلس الدستوري الفرنسي إلى عدم تعارض اختصاص المحكمة مع الدستور الفرنسي مقرراً أنه: “إذا كانت الدولة غير راغبة في المقاضاة أو غير قادرة على الاضطلاع بالإجراءات بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني أو بسبب عدم توافره، فلا يوجد تعارض مع الشروط الأساسية لممارسة السيادة الوطنية”. كما ذهب مجلس الدولة الأسباني إلى ذات الرأي مقرراً: “إن الحق الدستوري في الحماية القضائية الفعالة لا تقتصر على الحماية التي تكفلها المحاكم الإسبانية وإنما قد يمتد إلى الهيئات القضائية التي تقبل أسبانيا باختصاصها”.

المحكمة الجنائية الدولية

2- الحصانة المرتبطة بالصفة الرسمية للأشخاص:

تنص العديد من الدساتير على نوع من الحصانة ضد المقاضاة الجنائية بالنسبة لرئيس الدولة والمسؤولين الحكوميين والبرلمانيين. وكما هو معروف جيداً فإن المسألة التي تمت إثارتها ترتبط بتوافق مثل هذه الحصانة مع المادة 27 من النظام الأساسي الخاصة “بعدم الاعتداد بالصفة الرسمية”. وقد جرى نص هذه المادة على أنه لا يجوز الاعتداد بالصفة الرسمية بأي حال من الأحوال للإعفاء من المسؤولية الجنائية أو جعلها سبباً لتخفيف العقوبة، كما أن الحصانة أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي لا تحول دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص.

وجدير بالذكر أن الحصانة الممنوحة بموجب الدستور تختلف باختلاف الدول وباختلاف طبيعة الحصانة ذاتها.

ونشير بدايةً إلى بعض الأفكار التي قال بها أنصار طريقة التفسير ويمكن حصرها في ثلاثة عناصر:

-طبيعة الجرائم والقانون الدولي

وهنا يستند الرأي على التزامات الدولة على الصعيد الدولي، فبعض الاتفاقيات الدولية تطرح جانباً مسألة الحصانة إذ تعلق الأمر بجرائم معينة تخضع للقانون الدولي مثال ذلك اتفاقية 1948 الخاصة بحظر الإبادة الجماعية فهي تنص صراحةً في المادة الرابعة منها على معاقبة الأشخاص الذين اقترفوا الإبادة الجماعية “سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادا”، كما أن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 تلزم بمحاكمة كل من ارتكب أحد الانتهاكات الجسيمة الواردة بها أياً كان موقعه وتجسد مبدأ “مسؤولية القادة”. وبالتالي فإنه يتم تفسير الأحكام الدستورية طبقاً لالتزامات القانون الدولي التي تلزم الدول بواجب التحقيق والمقاضاة على بعض الجرائم الخطيرة بغض النظر عن صفة الشخص الذي ارتكبها.

وفي تقديري أن هذا الرأي في تفسير الأحكام الدستورية طبقاً لالتزامات القانون الدولي مرهون بطبيعة النظام القانوني لكل دولة وتحديدها للقانون الذي يعلو على الآخر في حالة حدوث تعارض بين القانون الدستوري والقانون الدولي، وقد يكون هذا التفسير صالحاً للدول التي تعطي الغلبة للقانون الدولي.

-الغرض من الحصانة

أما العنصر الثاني في التفسير فينصرف إلى الغرض من الحصانة، فيجب أن تقتصر الحصانة في جميع الأحوال على الغرض المقصود منها. وبعبارة أخرى فالحصانة الدستورية ينبغي أن تكون مفهومة على أنها تقتصر صراحةً أو ضمناً على ممارسة الوظائف التي تتصل بالمنصب الذي لها علاقة به.

وتنص بعض الدساتير بصفة خاصة في حالة الحصانة البرلمانية على أنها تقتصر على ما يبديه العضو من أفكار وآراء في أداء أعماله في المجلس، كما تستبعد دساتير أخرى صراحةً السلوك الذي ليست له صلة بالنشاط السياسي لعضو البرلمان المعني إذا كان ينطوي على الجريمة.

وسواء كانت الحصانة محدودة صراحةً أم لا فإن البعض ذهبوا إلى ضرورة مراعاة الغرض المنشود من التقرير بالحصانة الذي يتجلى في تمكين المستفيد من الحصانة من أداء مهامه دون عائق. فالغرض منها لم يكن تسهيل أو ضمان الإفلات من المعاقبة على الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. وباتباع هذا المنهج في التفسير يمكن القول بسهولة أن مثل هذه الجرائم لا تدخل ضمن الوظائف الرسمية لأي برلماني أو مسؤول حكومي أو رئيس دولة، ومن ثم فإنها تخرج من نطاق الحصانة. وهذا الرأي يعكس بالطبع ما خلص إليه الرأي بشأن قضية “بينوشيه” من أن الحصانة الممنوحة لرئيس دولة بموجب القانون الوطني تمتد فقط إلى ممارسة المهام الرسمية وبما أن التعذيب يخرج من نطاق هذه المهام فإن حق الحصانة ليس مكفولاً بشأنه.

– منع التدخل السياسي

وقد قيل في هذا الشأن أن أحد الأهداف الدستورية الكامنة وراء منح الحصانة هو الحيلولة دون التدخل لأسباب سياسية أو لأي سبب آخر في الشؤون الداخلية لدولة ما. ولما كان النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد صاغ إجراءات خاصة بقبول الدعوى تعطي الأولوية للقضاء الوطني ثم توفر العديد من الإجراءات الوقائية قبل ممارسة المدعي العام لاختصاصاته فإنه يحول بذلك دون التدخل غير اللائق في الشؤون الداخلية للدول.

تلك كانت بعض الآراء التي لجأت إلى تفسير الدستور لتفادي إجراء تعديلاً دستورياً. أما ما جاء في قرارات مجالس الدولة أو المجالس الدستورية، فنعرض ما يلي:

في اسبانيا: قرر مجلس الدولة أن المادة 27 من النظام الأساسي تتوافق مع الدستور الأسباني لأنها لا تؤثر على ممارسة امتيازات الحصانة لأعضاء البرلمان، وإنما تمثل نقلاً للاختصاصات للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ما تسمح به المادة 93 من الدستور. غير أن حصانة الملك تظل قائمة إذ أنها تمثل أحد المبادئ الأساسية للنظام السياسي الأسباني، ويتعين تفسير النظام الأساسي وفقاً لذلك.

في كوستاريكا: قررت المحكمة العليا بتوافق المادة 27 من النظام الأساسي من الدستور تأسيساً على أنه لا يمكن للحصانة الجنائية لأعضاء البرلمان التي يكلفها الدستور أن تحول دون اضطلاع محكمة مثل المحكمة الجنائية بإجراءاتها بالنظر إلى طبيعة الجرائم.

وخلافاً لذلك فقد ذهب مجلس الدولة في كل من بلجيكا ولوكسمبرج والمجلس الدستوري الفرنسي إلى أن هناك تعارض دستوري مع أحكام المادة 27 من النظام الأساسي على النحو التالي:

في بلجيكا: انتهى مجلس الدولة إلى وجود هذا التعارض الدستوري فيما يتعلق بالمادة 88 من الدستور البلجيكي والتي تمنح لذلك حصانة مطلقة، وهذه الحصانة تشمل تصرفات الملك خلال أداء وظائف منصبه، كما تشمل أيضاً التصرفات خارج إطار المهام الوظيفية.

كما قرر مجلس الدولة أيضاً بوجود تعارض بين المادتين 58 و120 من الدستور الخاصتين بحصانة أعضاء البرلمان إذ أنه لا يجوز إعمالاً لهذه الأحكام ملاحقة أعضاء البرلمان بسبب تصويتهم أو الآراء التي يبدونها خلال أدائهم لمهام وظائفهم، وقد فسر مجلس الدولة ذلك بأن انعدام المسؤولية يستتبع تعليقاً عاماً ومستمراً لقواعد القانون الجنائي والمسؤولية المدنية إزاء كافة الأعمال التي يقوم بها عضو مجلس النواب أو الشيوخ خلال ممارسته لمهام منصبه والتي قد تتضمن انتهاكات أو أخطاء تتصل بهذه الممارسة ذاتها. ومن ثم فإن مضمون القرار الذي يصوت عليه أو الرأي الذي يبديه أو الوزير يمكن أن يشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، واستند المجلس في ذلك إلى الفقرة 3ب من المادة 25 من النظام الأساسي التي تنص على مساءلة الشخص الذي يأمر أو يغري بارتكاب أو يحث على ارتكاب إحدى الجرائم الواردة في النظام الأساسي. وخلص المجلس إلى وجود تعارض أيضاً بين المادتين 58 و120 من الدستور والمادة 27 من النظام الأساسي.

وكما قرر المجلس تعارض الحصانة البرلمانية مع النظام الأساسي لروما فإنه خلص في قراره أيضاً إلى وجود ذات التعارض مع الحصانة الإجرائية الممنوحة للوزراء المقررة بموجب الفقرة الخامسة من المادة 103 من الدستور.

في لوكسمبرج: قرر مجلس الدولة أنه لا يمكن التوفيق بين أحكام الدستور والمادة 27 من النظام الأساسي تأسيساً على أن المادة 4 من الدستور تنص على أن شخص الدوق الأكبر مصون، وتعد مسؤولية الدول الأكبر كاملة ومطلقة فهو بمنأى عن كافة أشكال الملاحقة لأي سبب من الأسباب، وفيما يتصل بالمسؤولية الجنائية على وجه الخصوص فإن الدستور لا يسمح بأي استثناء.

وأخيراً في فرنسا: ذهب المجلس الدستوري إلى وجود تعارض بين المادة 27 من النظام الأساسي والمادة 68 من الدستور التي تكفل حصانة مطلقة لرئيس الجمهورية فيما يتصل بالأعمال التي يقوم بها أثناء أدائه لواجباته إلا في حالة الخيانة العظمى، كما أنه لا يجوز توجيه الاتهام إليه خلال فترة أدائه لهذه الواجبات إلا أمام محكمة العدل العليا، وفقاً للآليات التي تحددها المادة نفسها.

كما قرر المجلس أيضاً بوجود تعارض مع المادتين 26 و68/1 فيما يتعلق بالحصانة البرلمانية وحصانة أعضاء الحكومة ومن ثم تطلب الأمر إجراء تعديل دستوري للتصديق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ويلاحظ في هذا الشأن الآتي:

يجب النظر إلى هذا الاتجاه الذي خلص إلى وجود تعارض دستوري مع المادة 27 على ضوء النصوص الواردة في هذه الدساتير، فوفقاً للوضع في بلجيكا ولوكسمبرج يمنح الدستور للملك أو للدوق الأكبر حصانة مطلقة، كما أن الوضع في فرنسا قاصر فقط على جريمة الخيانة العظمى لذا كان التقرير بوجود هذا التعارض أمراً واحداً، ولكن يجب دراسة كل حالة على حدة، فبعض الدول تمنح الرؤساء مجرد حصانة إجرائية لا تحول دون محاكمتهم وذلك خلافاً لما قرره الدستور الفرنسي من حصانة موضوعية، ودول أخرى تنص صراحةً على منح الرؤساء حصانة نسبية بشأن بعض الجرائم أو حصانة مقيدة بمهام الوظيفة العامة وليس حصانة مطلقة كما هو الوضع في بلجيكا ولوكسمبرج، ولذلك فإنه يجب على كل دولة وفقاً لنظامها الدستوري بحث هذه المسألة للتقرير بدستورية أو عدم دستورية المادة 27 من النظام الأساسي للمحكمة.

3- تسليم الرعايا

وهنا تثار مشكلة حظر تسليم رعايا الدولة إلى قضاء أجنبي وهو المبدأ الوارد في دساتير العديد من دول العالم ومدى تعارض هذا المبدأ مع الالتزام بتقديم رعايا الدولة إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا انعقد لها الاختصاص في إجراء المحاكم.

وقد استند أنصار مبدأ التفسير إلى عدة حجج يمكن إجمالها فيما يلي:

-التسليم والإحالة للمحاكمة:

وهذه الحجة هي الأكثر إقناعاً وتداولاً بين الدول للتعامل مع إشكالية تسليم الرعايا ومدى تعارضها مع النظام الأساسي، وتستند هذه الحجة على الاختلاف النوعي بين “الإحالة إلى المحكمة” الذي هو تقديم الدولة لشخص ما إلى المحكمة و”التسليم” لذي هو تسليم الدولة لشخص ما إلى دولة أخرى. وهذا التمييز المذكور صراحةً في نص المادة 102 من النظام الأساسي يدفعنا إلى القول بأن التسليم إلى دولة أخرى ذات سيادة يختلف تماماً عن الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية كهيئة دولية أنشئت بموجب القانون الدولي وبمشاركة الدول المعنية وموافقتها. وهذه التفرقة النوعية تدفعنا إلى تساؤل آخر هل المحكمة الجنائية الدولية الدائمة تعد محكمة أجنبية؟

ذهب معظم المفسرين إلى أنها ليست محكمة أجنبية وإنما هي امتداد لولاية القضاء الوطني. وسواء صح هذا القول أم لم يصح فإن لدى الكثيرين القناعة بأن المحكمة الجنائية الدولية ليست فعلاً “محكمة أجنبية” أو “ولاية قضاء أجنبي” تتعارض مع الأحكام الدستورية المتنوعة التي تحظر التسليم. فعندما منعت الدساتير التسليم إلى ولايات القضاء الأجنبي كانت تقصد بذلك القضاء الوطني للدول الأخرى وليس قضاء دولي لمحكمة تم إنشائها بإرادة هذه الدول ذاتها. والمحكمة الدولية التي تنشئها الدول بموجب أحكام القانون الدولي والتي تشارك فيها كدول أطراف لا يمكن مقارنتها بأية محكمة وطنية أجنبية. وخلص أنصار هذا الرأي إلى أن إجراءات التسليم الاعتيادية والاهتمام بحماية العدالة والشرعية الوطنية لا تنطبق على الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية ومن ثم، لا انطباق لهذا الخطر بتسليم دولة لرعاياها في ظل نظام روما.

-الإفلات من العقاب والتكامل:

أما هذه الحجة فهي تنصرف إلى أن الهدف من خطر تسليم رعايا الدولة ليس هو ضمان إفلاتهم من العقاب على تلك الجرائم الفظيعة. آية ذلك أن معظم الدول التي تنص دساتيرها على حظر التسليم لها أيضاً تشريعات تنص على إمكانية ممارستها لولايتها القضائية على رعاياها إذا ما ارتكبوا أية جريمة في مكان ما من العالم. وإذا اضطلعت الدولة وفقاً لمبدأ التكامل المنصوص عليه في النظام الأساسي بواجباتها، فإن المحكمة لن تكون لها ولاية قضائية ولن يكون عليها واجب الإحالة إلى المحكمة.

ومن ثم كان التكامل هو سند أصحاب هذه الحجة للقول بعدم وجود تعارض دستوري، لأن المحكمة الجنائية الدولية سينعقد لها الاختصاص عندما تكون الدولة عازفة أو غير قادرة على ذلك. وإذا كانت إحدى الدول الأطراف تحظر تشريعاتها تسليم رعاياها غير راغبة في إحالة شخص ما إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن عليها ببساطة أن تجري تحقيقاً فعلياً على المستوى الوطني وتضطلع بواجبها وبذلك تتفادى المشكلة.

أما عن آراء المجالس الدستورية المختصة فيلاحظ أن قرار المجلس الدستوري الفرنسي وقراري مجلس الدول في بلجيكا وأسبانيا قد جاءوا دون إشارة إلى هذا الموضوع بما يشير إلى عدم وجود شبهة عدم دستورية في نظام الإحالة إلى المحكمة.

أما المحكمة الدستورية في كوستاريكا فقد قررت أن الضمانة الدستورية التي تحظر إجبار مواطن كوستاريكي على مغادرة الإقليم الوطني رغماً عنه ليست مطلقة، ويجب أن تخضع لتحقيق القيم والمبادئ الدستورية المتوافقة مع نظام الحماية الذي أنشأه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ومن ثم لم تجد تعارض من الدستور وإحالة مواطن كوستاريكي إلى المحكمة الجنائية الدولية.

وكذلك ذهبت المحكمة الدستورية في الإكوادور إلى أن تسليم المواطنين المحظور في ظل الدستور لا ينطبق على تقديم الأشخاص إلى محكمة دولية لأن الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية وضع قانوني يختلف عن التسليم.

4- سلطات المدعي العام فيما يتعلق بإجراء التحقيقات في إقليم دولة طرف

لما كانت الفقرة الرابعة من المادة 99 من النظام الأساسي تجيز للمدعي العام أن يباشر بعض أعمال التحقيق دون حضور سلطات الدولة الموجه إليها الطلب وداخل إقليم هذه الدولة، وأن بوسعه على وجه الخصوص جمع إفادات من شهود وإجراء معاينة لموقع عام أو أي مكان عام آخر فإن ذلك يثير شبهة عدم دستورية هذه الفقرة إخلالها بالسيادة الوطنية.

وقد أخذ أنصار مبدأ التفسير في هذا الشأن بمبدأ التكامل كحجة للقول بعدم وجود أية شبهة لعدم دستورية، آية ذلك أن المادتين 54 و57/3 (د) وأحكام الباب التاسع من النظام الأساسي المتعلق بالتعاون الدولي والمساعدة القضائية قد صاغتا أحكاماً إجرائية عديدة تكفل احترام السيادة الوطنية عند ممارسة المدعي العام لاختصاصاته، وما حكم الفقرة الرابعة من المادة 99 إلا استثناء من هذه القاعدة مشروط أولاً بأن تكون الدولة الطرف الموجه إليها الطلب هي دولة ادعي ارتكاب جريمة في إقليمها، وكان هناك قرار بشأن المقبولية بموجب المادة 18 أو المادة 19 وثانياً فإن المدعي العام ملزم بإجراء كافة المشاورات الممكنة مع الدولة الطرف الموجه إليها الطلب قبل مباشرة إجراءاته.

وقد أخذت الكثير من المجالس الدستورية بهذا الرأي:

ففي أسبانيا قرر مجلس الدولة أنه على الرغم من أن مضمون المواد 99/4، 54/2، 93 و96 في اختصاص القضاء الوطني، فمن الممكن نقل هذه الاختصاصات إلى هيئات أخرى في ظل المادة 93 من الدستور الأسباني.

كما قرر مجلس الدور في لوكسمبرج بأن سلطات إجراء التحقيقات على الإقليم الوطني الممنوحة للمدعي العام تتفق مع الدستور بقدر كونها تمارس بعد التشاور بين المدعي العام وسلطات الدولة الطرف.

أما في فرنسا فقد قرر المجلس الدستوري بعدم توافق المادة 99/4 مع الدستور الفرنسي لأن سلطات إجراء التحقيقات على الإقليم الوطني الممنوحة للمدعي العام تتعارض مع الدستور بقدر إمكانية إجراء التحقيقات في غياب السلطات القضائية الفرنسية حتى في ظل عدم وجود ظروف خاصة. وفي تقديري أن حكم هذه الفقرة الرابعة من المادة (99) لا يتعارض مع السيادة الوطنية للدول لو نظرنا إليه في إطار مبدأ التكامل الذي يعطي الأولوية للقضاء الوطني، فلو أن الدولة تنازلت عن هذا الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية التي هي طرف فيها فإنها بذلك تكون قد سمحت بنقل هذا الاختصاص للمدعي العام.

5- عدم سقوط الجرائم بالتقادم

لما كانت المادة 29 من النظام الأساسي تقضي بعدم سقوط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم فقد أثار البعض عدم توافق هذه المادة دستورياً.

من ذلك ما ذهب إليه المجلس الدستوري الفرنسي من أن إحالة قضية إلى المحكمة تكون الأفعال المتصلة بها خاضعة للتقادم في ظل القانون الوطني، ودون أن يكون ذلك نتيجة لعدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها، فإن ذلك يخل بالشروط الجوهرية لممارسة السيادة الوطنية.

وحقيقة الأمر فإن رأي مجلس الدولة في كل من بلجيكا وأسبانيا ولوكسمبرج والمحكمة الدستورية في الإكوادور وكوستاريكا لم تتطرق لفحص هذه المسألة بما يشير إلى أنه لا يوجد تعارض بشأن هذا الحكم وما ورد بدساتير هذه الدول.

ولكن هذه الإشكالية أيضاً تحل في ضوء تفسير بسيط يتمثل في أن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بمقتضى العرف الدولي لا تسقط بمضي المدة فضلاً على أن اتفاقية عام 1968 صاغت هذه القاعدة العرفية في اتفاقية دولية تحظر انطباق التقادم على مثل هذه الجرائم، ومن ثم فإن الدول بالتصديق على نظام روما الأساسي تقبل بحكم هذه المادة التي تقرر حكماً خاصاً لنوع معين من الجرائم هي الجرائم الأشد خطورة على الصعيد الدولي إذ لا يوجد أي قاعدة أو مبدأ دستوري تحول دون عدم تقادم تلك الجرائم ومن ثم فإنه ليس هناك ثمة تعارض بين السيادة الوطنية وعدم سقوط الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية بالتقادم ويمكن حل هذه الإشكالية في ضوء التشريعات الداخلية عند مواءماتها مع نظام روما.

6- عدم جواز المحاكمة عن ذات الجريمة مرتين:

أثيرت أيضاً شبهة وجود تعارض بين المادة 20 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مع القواعد الدستورية الخاصة بعدم جواز محاكمة الشخص عن ذات الجرم مرتين، إذ أن هذه المادة في الفقرة الثالثة منها أجازت محاكمة شخص يكون قد حوكم أمام محكمة أخرى عن ذات الفعل في الحالات الآتية:

(أ)إذا كانت الإجراءات في المحكمة الأخرى قد اتخذت لغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية من جرائم تدخل في اختصاص المحكمة.

(ب)إذا لم تجر الإجراءات بصورة تتسم بالاستقلال أو النزاهة وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في هذه الظروف على نحو لا يتسق مع النية لتقديم الشخص المعني للعدالة.

وحقيقة الأمر أن المجالس الدستورية في بلجيكا وأسبانيا ولوكسمبرج وكوستاريكا لم تتعرض إلى هذا الموضوع كأحد المواضيع التي تثير شبهة عدم الدستورية.

ولكن المحكمة الدستورية في الإكوادور قد قررت أن حكم المادة 20 من النظام الأساسي تتوافق وأحكام الدستور إذ أن الحالات المنصوص عليها في النظام الأساسي استثنائية، والهدف منها تجنب الإفلات من العقاب.

وكذلك ذهب مجلس الدولة الأسباني إلى القول أن مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن ذات الفعل مرتين، يمثل جزء من الحق الدستوري في ضمان الحماية القضائية الفعالة للمواطن. إلا أن هذا الحق ليس مقصوراً على الحماية التي تمنحها المحاكم الأسبانية وإنما يمتد ليشمل الأجهزة القضائية الأخرى التي قبلت أسبانيا اختصاصها. ولما كان نقل الاختصاص الجنائي للمحكمة الجنائية الدولية يسمح للمحكمة بتعديل القرارات الصادرة من القضاء الأسباني دون التعرض مع الحق الدستوري للحماية القضائية.

وأياً ما كان عليه الأمر في تقديري فإن المادة 20 من النظام الأساسي والمعنونة “عدم جواز المحاكمة عن ذات الجريمة مرتين” قد جاءت مؤكدة على هذا المبدأ بما يقطع باحترام النظام الأساسي للمبدأ، ثم أوردت المادة ذاتها الاستثناءين المذكورين سلفاً من هذا المبدأ.

بالنظر إلى هذين الاستثناءين نجد أنهما ترديد لما ورد بالمادة (17) فقرة (2) التي تعدد معايير اعتبار الدولة غير الراغبة في الاضطلاع باختصاصها في التحقيق والملاحقة ومن ثم فنحيل إلى ما سبق ما أوردناه بشأن مبدأ التكامل وعدم تعارضه مع السيادة الوطنية باعتبار أن الدولة الطرف في هذه الحالة أيضاً تتنازل عن اختصاصها الأصيل للمحكمة الجنائية الدولية ومن ثم فلا توجد شبهة تعارض مع الأحكام الدستورية.

وتأييداً لذلك الرأي استند إلى ما خلص إليه المجلس الدستوري الفرنسي عندما قرر: “إن المجلس إذ يضع في اعتباره من جانب، أن أحكام النظام الأساسي التي تقيد مبدأ تكامل المحكمة إزاء الاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية، في حالة تعمد الدولة التنصل من التزاماتها بموجب الاتفاقية، إنما تنجم عن قاعدة “العقد شريعة المتعاقدين” التي تقضي بأن المعاهدات النافذة تلزم أطرافها ويجب تنفيذها بحسن نية، وأن هذه الأحكام تحدد حصراً وموضوعياً الحالات المفترضة التي يكون بوسع المحكمة عندها أن تعلق اختصاصاتها، وأن هذه الأحكام بالتالي لا تخل بالشروط الضرورية لممارسة السيادة الوطنية.

7- حق العفو:

ونشير في هذا الصدد إلى أن حق العفو المقصود في نظام روما في المادة (110) هو العفو عن العقوبة وليس العفو الشامل عن الجريمة الذي لا يتقرر في معظم الدول إلا بالقانون.

وقد ذهب المجلس الدستوري الفرنسي إلى أن النظام الأساسي يفضي إلى إمكانية اللجوء إلى اختصاص المحكمة لمجرد تطبيق قانون عفو، وأنه في مثل هذه الحالة يمكن أن تجد فرنسا نفسها مطالبة بأن تلقي القبض على أحد الأشخاص وتقدمه للمحكمة بسبب وقائع يشملها العفو وخلص المجلس من ذلك إلى تعارض هذا الحكم مع الشروط الضرورية لممارسة السيادة الوطنية ومن ثم استلزم تعديلاً دستورياً لمواجهة هذا التعارض.

على حين ذهب مجلس الدولة البلجيكي إلى أن المادتين 110 و111 من الدستور البلجيكي تقرر أن حق العفو الملكي، وخلص إلى أنه تبين رأي المجلس الدستوري الفرنسي الذي خلص إلى أن النظام الأساسي يعرقل هذا الحق، إلا أن مجلس الدولة البلجيكي يقرر أن العفو الملكي له طابع إقليمي، أي أن الملك لا يستطيع ممارسة هذا الحق سوى وإزاء العقوبات الصادرة عن محاكم بلجيكية، ومن ثم فلا تعارض في ذلك مع أحكام الدستور البلجيكي.

وفي تقديري أن النظام الأساسي تعرض فقط للعفو عن العقوبة كما أسلفنا، وهنا تقوم الحجة التي قال بها مجلس الدولة البلجيكي من أنه حق إقليمي يمارس على إقليم الدولة وعلى الأحكام الصادرة من محاكمها الوطنية ومن ثم فلا تعارض بين حكم المادة (110) من النظام الأساسي والأحكام الدستورية بما أن المحكمة الجنائية الدولية قد انعقد لها الاختصاص وأصدرت حكماً في الدعوى وبالتالي تنظر في إمكانية تخفيف العقوبة وإصدار أمر بالإفراج عن أي شخص صدر عليه حكم ووفقاً للنظام الأساسي.

8- العقوبات:

ثار في بعض الدول الأوروبية وبعض دول أمريكا اللاتينية إشكالية عقوبة السجن المؤبد وهي عقوبة غير مقررة وفقاً للقوانين الوطنية، ولكن المجالس الدستورية المختصة في كوستاريكا والإكوادور وأسبانيا انتهت إلى عدم وجود تعارض لأن المادة (80) تسمح باستبعاد تطبيق العقوبات غير المنصوص عليها في التشريعات الوطنية كما أن المادة 110 تسمح بإعادة النظر في العقوبات بما يجعل الفترة الزمنية للعقوبات أكثر مرونة كما قرر بذلك مجلس الدولة الأسباني أو بما يجنب فرض عقوبة السجن المؤبد أو الغير محدد المدة كما ذهبت إلى ذلك المحكمة الدستورية في الإكوادور.

أما الدول التي تأخذ بعقوبة الإعدام وهي العقوبة الغير منصوص عليها في النظام الأساسي فقد حسمت هذه الإشكالية في ضوء المادة (80) من النظام الأساسي التي تمنح الدول حق توقيع العقوبات المنصوص عليها في قوانينها الوطنية إذا ما تمت محاكمة الشخص أمام المحاكم الوطنية، وبالتالي فإن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يحول دون تطبيق أحكام الإعدام على الجرائم الداخلية في اختصاصه ما دامت الدولة الطرف هي التي تضطلع بالمحاكمة على الصعيد الوطني.

Menu