أولت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 أهمية خاصة للحيلولة دون وقوع انتهاكات جسيمة لأحكامها، وفي هذا الإطار نستطيع أن نصنف مجموعة من هذه الآليات لها دور وقائي توصف بأنها آليات وقائية تتلخص في ثلاث آليات:

• الالتزام بنشر أحكام القانون الدولي الإنساني والتعريف به.

• إعداد عاملين مؤهلين بهدف تسهيل تطبيق القانون الدولي الإنساني.

• تعيين مستشارين قانونيين في القوات المسلحة.

وسوف نعرض فيما يلي لكل آلية من هذه الآليات بالتفصيل الملائم.

أولاً: الالتزام بنشر أحكام القانون الدولي الإنساني والتعريف به:

أوردت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 في المواد المشتركة (أرقام 47، 48، 127، 144) النص على أن تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تنشر نص هذه الاتفاقية على أوسع نطاق ممكن في بلدانها، في وقت السلم كما في وقت الحرب، وتتعهد بصفة خاصة بإدراج دراستها ضمن برامج التعليم العسكري، والمدني إذا أمكن، بحيث تصبح المبادئ التي تتضمنها معروفة لجميع السكان، وعلى الأخص للقوات المسلحة المقاتلة، وأفراد الخدمات الطبية والدينية.

 وأورد البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 ذات الالتزام حيث نصت الفقرة الأولى من نص المادة 83 على أن “تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بالقيام في زمن السلم وكذا أثناء النزاع المسلح بنشر نصوص الاتفاقيات ونص هذا اللحق “البروتوكول” على أوسع نطاق ممكن في بلادها، وبإدراج دراستها بصفة خاصة ضمن التعليم العسكري، وتشجيع السكان المدنيين على دراستها حتى تصبح هذه المواثيق معروفة للقوات المسلحة وللسكان المدنيين”.

وباستعراض النصوص سالفة الذكر يتضح أن هذا الالتزام بالنشر على النطاق العام التزام أساسي على كل الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول. والنشر يفرض على الأطراف المتعاقدة أن يكون مقاتلوها مدربين على العمل بما يتفق وأحكام هذا القانون، وهذا الالتزام لا يقتصر على النشر في أوساط العسكريين فقط وإنما ينصرف أيضًا إلى المدنيين. وكذلك فإن هذا الالتزام يشمل أداء مهمة النشر ليس في وقت النزاع المسلح فحسب وإنما في وقت السلم أيضًا، فلا بد أن يبدأ منذ وقت السلم نشر القانون والتدريب عليه، بما يتيح تحقيق هذا الالتزام بصورة كاملة.

وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكثر من مناسبة ضرورة نهوض الدول بالتزاماتها بنشر القانون الدولي الإنساني في زمن النزاعات المسلحة.

وقد أبرزت المؤتمرات الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر مرارًا أهمية نشر القانون الدولي الإنساني، وطالبت الدول بتنفيذ التزاماتها في هذا المجال.

وفي ذات الاتجاه نص النظام الأساسي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر على أن تقوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالعمل على نشر القانون الدولي الإنساني المنطبق في النزاعات المسلحة، وإعداد ما يلزم من تحسينات لتطويره، واللجنة الدولية للصليب الأحمر تساند الدول الأطراف على القيام بمسؤوليتها في نشر القانون، لأن هذا الالتزام يقع بالدرجة الأولى على عاتق الدول الأطراف في الاتفاقيات، لذا يقتصر دور اللجنة الدولية على نحو ما سنرى في الفصل الثاني من هذه الدراسة على دعم وتنشيط سياسات النشر التي تقوم بها الحكومات وليس الحلول محلها في هذا المجال.

ونرى أن الأهمية التي أولتها الاتفاقيات الدولية والقرارات الدولية سالفة الذكر لالتزام الدول بنشر القانون الدولي الإنساني والتعريف به على أوسع نطاق تجسد ثلاثة أهداف هامة متوخاة من هذا الالتزام:

1- إن الجهل بأحكام القانون الدولي الإنساني يؤدي إلى انتهاكات جسيمة تترتب عليها معاناة إنسانية وخسائر في الأرواح البشرية والممتلكات يمكن تفاديها أو الحد منها إذا ما كان هناك علم مسبق بأحكام هذا القانون.

2- لا يمكن للضحايا أن يتمسكوا بحقوقهم التي نص عليها القانون الدولي الإنساني وأن يطالبوا بها ما لم يكن لديهم العلم والدراية بأحكام هذا القانون.

3- لتحقيق فاعلية القانون الدولي الإنساني وإنفاذ أحكامه على الصعيد الوطني، هناك لزوم أن يلم المسؤولون عن تطبيق هذا القانون بأحكامه، وهي الفئات التي توجه إليها هذه البرامج بهدف تطبيق القانون كالدبلوماسيين، والقضاة والبرلمانيين.

وبذلك يتضح لنا بجلاء أن نشر هذا القانون والتعريف به يعد من أهم الآليات التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية وأكدتها مجموعة من القرارات الدولية لاستهداف الوقاية من وقوع الانتهاكات الجسيمة وللوصول إلى تحقيق التطبيق الأمثل لأحكام القانون الدولي الإنساني على الأصعدة الوطنية.

ثانيًا: إعداد عاملين مؤهلين لتسهيل تطبيق القانون الدولي الإنساني:

ورد النص في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 في الفقرة الأولى من المادة (6) على دعوة الأطراف السامية المتعاقدة إلى أن تسعى في زمن السلم أيضًا لإعداد عاملين مؤهلين بغية تسهيل تطبيق الاتفاقيات وهذا اللحق (البروتوكول) وخاصةً فيما يتعلق بنشاط الدول الحامية. ووفقًا للأعمال التحضيرية للبروتوكول الإضافي الأول فإن التركيز في النص على إعداد العاملين المؤهلين مقصود به تحقيق اعتبارين هامين:

الأول: مساعدة الدول الحامية على أداء واجباتها.

الثاني: الاستفادة منهم على الصعيد الوطني لدولهم بتقديم النصيحة أو المشورة والمعرفة إلى السلطات المعنية مباشرةً والتي تشارك مشاركة فعالة في أنشطة النشر وتطبيق القانون الدولي الإنساني.

ونفاذًا لحكم المادة (6) من البروتوكول الإضافي الأول سالفة الذكر تقوم الأطراف المتعاقدة التي تعد عاملين مؤهلين تنفيذًا لهذا النص بإرسال قوائم بأسمائهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تضعها تحت تصرف الأطراف المتعاقدة، الأمر الذي يسمح بالاستعانة بخدماتهم على نطاق واسع ليس فقط من جانب سلطات دولهم بل ومن جانب أطراف متعاقدة أخرى. وعلى الرغم من أهمية هذه الآلية ضمن الآليات الوقائية فإنها لم تحظ لفترات طويلة بالاهتمام اللازم من جانب الدول الأطراف. ولعل مرجع ذلك يعود إلى عدم تفعيل آلية الدول الحامية على نحو ما سنعرض له في المبحث التالي، أو تأخر الدول في الانخراط في منظومة التطبيق الوطني لأحكام القانون الدولي الإنساني لفترة تصل لحوالي عشرين عامًا بعد إبرام البروتوكول الأول.

والملاحظ حتى عند مطالعة كتابات العديد من فقهاء القانون الدولي الإنساني، نجد أن هذه الآلية ترد على سبيل الذكر ضمن الآليات الوقائية التي أضافها البروتوكول الأول وتكون التفصيلات حولها محدودة بذكر الالتزام وشرح للمادة السادسة، وهذا مؤشر لمحدودية العمل بها في الواقع العملي.

ثالثًا: تعيين مستشارين قانونيين للقوات المسلحة:

ورد النص لأول مرة على نطاق المستشارين القانونيين في المادة 82 من البروتوكول الإضافي الأول التي تقضي بما يلي:

“تعمل الأطراف السامية المتعاقدة دومًا، ويعمل أطراف النزاع أثناء النزاع المسلح على تأمين توفر المستشارين القانونيين، عند الاقتضاء، لتقديم المشورة للقادة العسكريين على المستوى المناسب، بشأن تطبيق الاتفاقيات وهذا البروتوكول، وبشأن التعليمات المناسبة التي تُعطى للقوات المسلحة فيما يتعلق بهذا الموضوع”.

وإذا ما طالعنا ألفاظ هذا النص نجد أنه خفف من الإلزام بدرجة كبيرة، واكتفى بالإشارة إلى مجرد العمل على تأمين توفر هؤلاء المستشارين القانونيين عند الاقتضاء. إلا أنه باستقراء موقف الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الإضافيين لصياغة القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني، نجد أن الدول قد أقرت بهذه الآلية باعتبارها تمثل عرفًا دوليًا، وبالتالي فهي ملزمة للدول ولو لم تصادق على هذا البروتوكول، ونذكر على سبيل المثال موقف الولايات المتحدة الأمريكية في الأخذ بنظام المستشارين القانونيين على الرغم من أنها لم تصادق بعد على البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.

ويعتمد الوفاء بهذا الالتزام، وفقًا للظروف الاقتصادية وإمكانيات كل دولة على طريقتين مختلفتين:

الطريقة الأولى: للدول التي لا تتوافر لديها الإمكانيات لتعيين مستشارين قانونيين متخصصين، فعليها أن تلجأ إلى تكوين القادة العسكريين لديها تكوينًا قانونيًا متخصصًا في مجال القانون الدولي الإنساني، بحيث يتيح لهم هذا التكوين تقويم الموقف القانوني عند إصدار أوامر القتال أو العمليات العسكرية.

الطريقة الثانية: والتي تلجأ إليها الدول التي تتوفر لديها إمكانيات وظروف اقتصادية تتيح لها تعيين مستشارين قانونيين متخصصين للقوات المسلحة. والدول التي تلجأ لهذه الطريقة تفضل تعيين المستشارين بحيث يكونون تابعين للقادة في القوات المسلحة بما لا يخل بوجوب الحفاظ على الأسرار والمعلومات العسكرية.

وأيًا ما كانت عليه طريقة الوفاء بالالتزام الوارد بالمادة (82) سالفة الذكر فإن آلية المستشارين العسكريين في القوات المسلحة تهدف إلى تحقيق ما يلي:

(1) يلجأ القادة العسكريون لاستطلاع رأي المستشار القانوني حول مدى مطابقة أوامر القتال والعمليات العسكرية للقانون الدولي الإنساني. وهذا الرأي القانوني هو مجرد رأي استشاري للتأكد من مدى مطابقة الأمر للقانون، ثم يصدر القائد العسكري تعليماته بالتنفيذ. الأمر الذي نخلص منه إلى أن الرأي الاستشاري للمستشار القانوني لا يمكن أن يعفي القائد من واجباته نحو التأكد من مطابقة أوامره للقانون ولا يمنع انعقاد مسؤوليته الجنائية إذا ما ارتكبت أية انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني عند تنفيذ أوامر القتال.

(2) كما تهدف هذه الآلية أيضًا إلى تكليف المستشار القانوني لدى القوات المسلحة إلى إعداد البرامج التدريبية والكتيبات العسكرية التي تحتوي على المعلومات القانونية الهامة التي يجب أن يلم بها كل فرد من أفراد القوات المسلحة حسب درجته في الهرم الرئاسي العسكري.

ونخلص من استعراض الدور المنوط بالمستشار القانوني لدى القوات المسلحة في شقيه إلى أنه دور وقائي يهدف أولًا، قدر الإمكان، إلى منع صدور أوامر عمليات عسكرية تخالف القانون، ويهدف ثانيًا إلى تزويد أفراد القوات المسلحة بالمعلومات القانونية اللازمة التي قد تمنعه من ارتكاب انتهاكات لأحكام القانون الدولي الإنساني.

Menu