هذا المبحث يتعلق بآليات الإشراف والمراقبة، فهو مكمل للالتزام العام الذي سبق ذكره من خلال مجموعة من آليات التنفيذ التي أوردتها اتفاقيات جنيف للرقابة على تطبيق قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني وهي آلية الدول الحامية ثم آلية التحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني وصولاً إلى آلية اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التي وردت ضمن أحكام البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، ثم يأتي الحديث عن دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر حال وجود انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وفيما يلي نتناول كل آلية من هذه الآليات بالتفصيل المناسب.

أولاً: الدول الحامية:

إن نشأة نظام الدول الحامية التي يعهد إليها باختصاصات رقابية في مجال القانون الدولي الإنساني بدأ مع اتفاقية جنيف الثانية لعام 1929 بشأن معاملة أسرى الحرب. وكانت المادة 86 من هذه الاتفاقية تلزم الأطراف السامية المتعاقدة بالاعتراف بأن الدول الحامية هي المسؤولة عن حماية مصالح أطراف النزاع عند تطبيق أحكام هذه الاتفاقية. ولم تقف اتفاقية 1929 عند هذا الحد، وإنما أوردت نص المادة 87 الذي يشير إلى اختصاص الدول الحامية ببذل المساعي الحميدة في حالة الخلاف بين أطراف النزاع على تطبيق أحكام الاتفاقية. وعهدت المادة 87 للدول الحامية حق الدعوة إلى عقد اجتماعات بين أطراف النزاع من أجل حل الخلاف بينهم، وألزم هذا النص الأطراف المتحاربة بتنفيذ المقترحات التي ترسلها إليها الدول الحامية في هذا الشأن.

وقد جاءت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 لتخول الدول الحامية سلطات أوسع في هذا الشأن، إذ جاءت العبارة الأولى من المواد المشتركة أرقام (8، 8، 8، 9) من الاتفاقية الرابعة على أن تطبق هذه الاتفاقيات بمعاونة وتحت إشراف الدول الحامية التي تكلف برعاية مصالح أطراف النزاع وطلبًا لهذه الغاية يجوز للدول الحامية أن تعين بخلاف موظفيها الدبلوماسيين أو القنصليين مندوبين من رعاياها أو رعايا دول أخرى محايدة، ويخضع تعيين هؤلاء المندوبين لموافقة الدول التي سيؤدون واجباتهم لديها.

وعند اعتماد البروتوكول الإضافي الأول في عام 1977 والخاص بالنزاعات المسلحة الدولية، جاءت المادة الخامسة من هذا البروتوكول لتنص أيضًا على تدعيم آلية الدولة الحامية.

ومن خلال نص المادة الخامسة نجد أن البروتوكول الإضافي الأول قد منح الدول الحامية مسؤولية كفالة احترام وتطبيق أحكام الاتفاقيات واللحق (البروتوكول) الإضافي الأول، فتكون بذلك قد منحت الدول الحامية سلطة مزدوجة، سلطة الوسيط والحارس، إذ إنها يجب أن تكون وسيطًا محايدًا بين أطراف النزاع وفي ذات الوقت تراقب المسائل المرتبطة بتطبيق القانون الدولي الإنساني، وهذا التوسع في اختصاصات الدول الحامية ربما يكون قد أتى بأثر سلبي على استخدام هذه الآلية على نحو ما سنرى فيما بعد عند استعراض الصعوبات التي حالت دون تفعيل هذه الآلية.

أ- مهام الدول الحامية:

مع اعتماد اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 تم توسيع اختصاصات الدول الحامية، ونظريًا يعد هذا النظام ملزمًا إذ جاء نص الاتفاقية على أن تطبق أحكامها بمعاونة وتحت إشراف الدول الحامية، ولكنها وضعت قيدًا هامًا يخضع بموجبه اختيار مندوبي الدولة الحامية لموافقة الدولة التي سيؤدون واجباتهم لديها، وفي هذه الحالة لا يمكن استبعاد تعذر الحصول على الموافقة المطلوبة، الأمر الذي يضع قيودًا عملية على نظام الدول الحامية. ويعكس وضع هذا القيد حرص الدول التي وضعت آليات الرقابة، بصفة عامة، على تقييد إنفاذ هذه الآليات باستلزام موافقة الدول المعنية بإنفاذ الآليات على أقاليمها.

كما وضعت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 قيدًا هامًا تقيد بموجبه أنشطة الدولة الحامية عند وجود ضرورات عسكرية، ولكن ذلك يكون بصفة استثنائية ومؤقتة. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الحكم بتقييد أنشطة الدولة الحامية لا يرد إلا في الاتفاقيتين الأولى والثانية، حيث تقل أهمية دورها كثيرًا عنها في الاتفاقية الثالثة وهي الخاصة بالأنشطة المبذولة لمساعدة أسرى الحرب، وفي الاتفاقية الرابعة الأنشطة المبذولة لمساعدة المدنيين، ولعل مرجع هذا الاختلاف أو التمييز أن الاتفاقيتين الأولى والثانية الخاصتين بالجرحى والغرقى والمنكوبين في البحار مخصصتان أساسًا لكي يتم تطبيقهما في الميدان وبالتالي يكون هناك مجال للاحتجاج بالضرورات العسكرية.

وبرصد الأحكام الخاصة بالدول الحامية في اتفاقية 1949 نستطيع القول أن المهام الموكلة إليها تم توسيعها بشكل ملحوظ عنها في عام 1929، إذ جاء النص الخاص بالدول الحامية لينص على أن هذه الاتفاقيات سوف تطبق بمعاونة وتحت إشراف الدول الحامية، وهنا تم توسيع مهمة الدول الحامية بحيث تتسع إلى كافة النواحي الخاصة بتطبيق هذه الاتفاقيات، إذ إن الأمر لم يعد فقط مقصورًا على متابعة التطبيق وإنما أيضًا الإشراف على التطبيق. فضلاً عن ذلك فإنه في عام 1929 كانت الاتفاقية الثانية خاصة فقط بأسرى الحرب، أما في عام 1949 فقد وردت اختصاصات للدول الحامية في الأربع اتفاقيات على التوالي بشأن الجرحى والمرضى والغرقى والمنكوبين في البحار وأسرى الحرب والمدنيين. هذا التعدد في الاتفاقيات جعل مهمة الدول الحامية تتسع لتشمل كل ما يتعلق بحماية الفرد أو حماية الأفراد وهو ما كان يصطلح على تسميته بقانون جنيف.

وإضافةً لهذه الاختصاصات، أوردت المواد المشتركة أرقام (11، 11، 11، 12) من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 حكمًا خاصًا يُلزم الدول الحامية مساعيها الحميدة من أجل تسوية الخلافات في جميع الحالات التي ترى فيها أن ذلك في مصلحة الأشخاص المحميين، وعلى الأخص في حالات عدم اتفاق أطراف النزاع على تطبيق أو تفسير أحكام هذه الاتفاقية.

ولهذا الغرض، يجوز لكل دولة حامية أن تقدم لأطراف النزاع، بناءً على دعوة أحد الأطراف أو من تلقاء ذاتها، اقتراحًا باجتماع ممثليها، وعلى الأخص ممثلي السلطات المسؤولة عن الجرحى والمرضى، وكذلك أفراد من الخدمات الطبية والدينية، عند الاقتضاء على أرض محايدة تُختار بطريقة مناسبة. وتلتزم أطراف النزاع بتنفيذ المقترحات التي تقدم لها تحقيقًا لهذا الغرض، وللدول الحامية أن تقدم، إذا رأت ضرورة لذلك، اقتراحًا يخضع لموافقة أطراف النزاع بدعوة شخص ينتمي إلى دولة محايدة أو تفوضه اللجنة الدولية للصليب الأحمر للاشتراك في هذا الاجتماع.

ومع اعتماد البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 حدث دمج بين قانوني جنيف وقانون لاهاي، إذ إنه أضاف أحكامًا تتعلق بأساليب ووسائل القتال، الأمر الذي جعل مهمة الدولة الحامية لا تقتصر فقط على حماية الأفراد وفقًا لقانون جنيف بمعناه التقليدي وإنما تتسع لتشمل أيضًا عمليات القتال وفقًا لقانون لاهاي، وأصبحت بذلك مهام الدول الحامية تشمل بعد اعتماد البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 القانون الدولي الإنساني بشقيه، قانون جنيف وقانون لاهاي.

ب- الإشكاليات التي تعترض التطبيق الأمثل لآلية الدول الحامية:

إن النصوص الحاكمة لآلية الدول الحامية في الوقت الراهن هي ما ورد باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والتي لم تطبق في الواقع العملي إلا في حالات قليلة، مثل حرب السويس 1956، وفي النزاع بين نيوزيلاندا وإندونيسيا عام 1961، والنزاع بين الهند وباكستان عام 1971، وحتى في الحالات التي طُبقت فيها هذه الآلية فإنها لم تطبق بشكل مرضي للأهداف المرجوة منها.

حيث لم تقبل بعض الأطراف تطبيق هذه الأحكام، واعترضت أخرى على قيام الآلية في مواجهة دولة معنية بالنزاع على سبيل المثال في حرب السويس قامت سويسرا بدور الدولة الحامية لمصالح كل من بريطانيا وفرنسا في مصر على حين قامت الهند برعاية مصالح مصر لدى بريطانيا وفرنسا، نظرًا لرفض مصر قيام أي اتصالات مع إسرائيل، فإن هذه الآلية تعطلت فيما يتصل بمصر وإسرائيل أثناء هذا النزاع.

وإذا ما أضفنا النصوص الواردة بالبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 فإنها لم توضع بعد موضع الاختبار في أي نزاع مسلح، وبالتالي لا نستطيع أن نحكم على مدى فاعلية أحكامه الإضافية، على الرغم من اعتمادها منذ أكثر من ثلاثين عامًا.

وهناك مجموعة من العوائق تحد من اللجوء إلى آلية الدول الحامية يمكن إيجازها فيما يلي:

1ـ من أهم الإشكاليات التي تعترض تنفيذ هذه الآلية، مبدأ سيادة الدولة، فالدول الأطراف في النزاع المسلح ترفض الخضوع لإشراف دولة أخرى في المسائل المرتبطة بتطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني، وهذه الإشكالية هي سمة مميزة لكافـة الآليات الرقابيـة الموجودة باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.

2ـ نظام الدول الحامية وبصفة خاصة بعد اعتماد المادة الخامسة في البروتوكول الإضافي الأول جعل من الدولة الحامية صاحبة اختصاص عام في الرقابة على كل ما يتعلق بالقانون الدولي الإنساني أثناء النزاع المسلح، وكان توسيع هذه الاختصاصات عائقًا إذ إنه يستلزم من الدول الحامية تعيين أشخاص مؤهلين وتحمل تكلفة الانتقال ورواتب هؤلاء الأشخاص، الأمر الذي أصبح معه من الصعوبة بمكان أن تتحمل ميزانية الدولة القيام بدور الدول الحامية.

3ـ الخوف من أن يُنظر إلى تعيين دولة حامية باعتباره اعترافًا بالطرف الآخر حيثما لا يكون هذا الطرف معترفًا به.

4ـ صعوبة العثور على دول محايدة تحظى بقبول كلا الطرفين وتكون راغبة وقادرة على العمل بهذه الصفة.

وهكذا نتبين من الممارسات العملية أن هذه الآلية على الرغم من أهميتها للرقابة من طرف محايد على تطبيق القانون الدولي الإنساني أثناء النزاع المسلح فإنها لم تحظ بالقبول الكافي، آية ذلك أنه منذ عام 1949 حتى الآن لم تطبق إلا بصورة جزئية في ثلاث نزاعات فقط، وأن التعديلات التي أدخلها البروتوكول الإضافي الأول عام 1977 لم تطبق في الواقع العملي ولا مرة حتى الآن.

ثانيًا: آلية التحقيق

عرّف القانون الدولي الإنساني عام 1929 ولأول مرة آلية التحقيق، عندما ورد النص عليها في الاتفاقية الأولى لعام 1929 الخاصة بتحسين أحوال الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان. وكما وردت في هذه الاتفاقية في نص المادة 30 فإن إجراء التحقيق يتوقف على طلب من أحد الأطراف المتعاقدة ولكنه يستلزم موافقة باقي أطراف النزاع، وأضافت المادة 30 أنه فور رصد لجنة التحقيق لهذه الانتهاكات على الأطراف وقف هذه الانتهاكات وقمعها فورًا. وقد تيقنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من صعوبة تطبيق هذا النص إذ إنه في ظل ظروف النزاع المسلح يتعذر الحصول على موافقة الأطراف على قيام آلية التحقيق، ويكفي دليلاً على ذلك أنه منذ إبرام هذا النص في عام 1929 كان هناك محاولة واحدة لإعمال هذه الآلية في النزاع الإيطالي الإثيوبي عام 1935-1936 ولكن لم يُكتب لهذه المحاولة النجاح. ولذلك عمدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى عقد جلسات عمل لمجموعة من الخبراء في مجال القانون الدولي الإنساني لبحث كيفية تفعيل هذه الآلية. وكان مقترح اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تكون هناك آلية دائمة تعمل فور وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني للتحقيق في هذه الانتهاكات وقمعها.

إلا أن اجتماعات الخبراء لم تعتمد هذا الرأي الذي ذهبت إليه اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وإثر قيام الحرب العالمية الثانية وتأثر الضمير العالمي بما لحق بالمدنيين والعسكريين على حدٍ سواء من انتهاكات أثناء هذا النزاع، قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1948 بإحالة هذا المقترح إلى المؤتمر الدولي السابع عشر للصليب الأحمر في اجتماعه المنعقد بمدينة ستوكهولم ضمنته آلية دولية للتحقيق فور وقوع الانتهاكات.

ومع ذلك لم يلق مقترح اللجنة الدولية للصليب الأحمر ترحيبًا من المشاركين في المؤتمر الدولي السابع عشر في ستوكهولم وأيضًا عندما بدأت المؤتمرات الدبلوماسية للتحضير لاتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 مالت أغلب الدول إلى الإبقاء على نص المادة 30 من اتفاقية 1929 كآلية للتحقيق.

أوردت اتفاقيات جنيف الأربع المواد المشتركة أرقام (52، 53، 132، 149) والتي تنص على قيام آلية التحقيق عند وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وبالنظر إلى هذه الآلية كما وُضعت في اتفاقيات جنيف لسنة 1949 نجد أنها تستلزم طلبًا من أحد الأطراف في النزاع بإعمال تحقيق في انتهاك للقانون الدولي الإنساني، كما كان الحال في نص المادة 30 من اتفاقية 1929. إلا أن اتفاقيات جنيف 1949 قدمت إضافة جديدة وهو أنه في حالة تعذر التوصل إلى اتفاق على آلية التحقيق الواردة في اتفاقيات جنيف الأربع فعلى الأطراف تعيين محكم يسعى إلى الوصول إلى اتفاق بشأن إجراءات التحقيق.

ولم تشهد هذه المادة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع حتى الآن أي حالة من حالات التطبيق بل يمكننا القول بأنها قد زادت من صعوبة الاتفاق، فإذا كانت هناك استحالة لقيام آلية التحقيق وفقًا لشرط موافقة أطراف النزاع في نص المادة 30 من اتفاقية 1929 فإن الأمور ازدادت تعقيدًا في ظل اتفاقيات جنيف الأربع إذ إنه ظلت هذه المادة تستلزم موافقة أطراف النزاع على قيام آلية التحقيق، فإذا لم يتوصلوا إلى اتفاق فعليهم أن يتفقوا على محكم ليضع حدًا لهذا الخلاف، فأبقت الأمر متوقفًا على إرادة الأطراف سواء في الاتفاق على قيام آلية التحقيق أو الاتفاق على تعيين محكم لتسهيل قيام آلية التحقيق، وهو ما لم يتحقق في تاريخ تطبيق هذه المادة المشتركة حتى اليوم.

وعلى الرغم مما يبدو نظريًا أنه تقدم في آلية التحقيق بمقارنة اتفاقيات 1929 مع اتفاقيات 1949 إذ إن الأخيرة وسعت من نطاق التطبيق بعد أن كان مقصورًا على الاتفاقية الأولى عام 1929 بشأن تحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان فإنها ضمنت هذا النص الذي يمكن من خلاله تطبيق آلية التحقيق في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وأيضًا أضافت آلية إجرائية تتيح للأطراف حال عدم التوافق على إجراءات التحقيق أن تلجأ إلى محكم لحل هذا الخلاف وصولاً لقيام هذه الآلية.

إلا أن هذا النص الذي يبدو من الناحية النظرية أكثر تطورًا من النص الوارد في اتفاقية 1929 لاقى ذات مصير المادة 30 من اتفاقية 1929 إذ إنه لم يُكتب له النجاح ولم يتم إعمال هذه الآلية حتى الآن ولو مرة واحدة، ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى تمسك الدول بمبدأ السيادة حيث ترفض إخضاع أعمالها وضباطها وأعمالها القتالية لأعمال رقابة من قبل أي من لجان التحقيق، ولذلك استلزمت موافقة أطراف النزاع على قيام هذه الآلية.

وإذا كان من السهل على الدول التي تُرتكب في حقها انتهاكات أن توافق على قيام هذه الآلية فإن الطرف الذي ينتهك القانون الدولي الإنساني من الطبيعي أن يرفض إعمال التحقيق في جرائمه.

ويبقى التساؤل عن المقترح الذي تقدمت به اللجنة الدولية للصليب الأحمر والذي سعت الدول إلى دراسته أثناء انعقاد المؤتمر الدبلوماسي الممهد لإبرام البروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف عام 1977، محاولةً حل هذه الإشكالية من خلال إنشاء لجنة دولية لتقصي الحقائق. فهل قامت هذه اللجنة بتلافي أوجه القصور التي وردت بشأن آلية التحقيق في اتفاقيات جنيف لسنة 1949.

ثالثًا: اللجنة الدولية لتقصي الحقائق:

ورد النص على قيام هذه الآلية في المادة 90 من البروتوكول (اللحق) الإضافي الأول والتي نصت على تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق، ويهمنا في هذا الصدد إبراز ثلاثة ملاحظات هامة:

1ـ الطبيعة الإلزامية للجنة الدولية لتقصي الحقائق:

في عام 1975 وبعد عام من بدء أعمال المؤتمر الدبلوماسي 1974-1977 لاعتماد البروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف، وبناءً على طلب مقدم من أربع دول، خرج إلى حيز النور المقترح الذي كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد أرسلته لمؤتمر ستوكهولم عام 1948 بشأن إيجاد آلية دولية دائمة للتحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني تعمل بصورة مباشرة فور وقوع الانتهاك. ولكن المفاوضات حول هذا المقترح بإنشاء لجنة دولية للتحقيق انقسمت إلى فريقين أثناء انعقاد المؤتمر الدبلوماسي، الفريق الأول كان يساند إنشاء هذه الآلية الدولية الدائمة التي يستطيع أن يلجأ إليها أحد أطراف النزاع فور وقوع انتهاك لتبدأ التحقيق مباشرةً في هذه الانتهاكات. الفريق الثاني كان ضد فكرة إنشاء هذه الآلية التي تعطي لهذا الجهاز الدولي الجديد سلطات تفوق سلطات الدول.

وقد انعكست هذه المواقف على أعمال المؤتمر الدبلوماسي حيث اختلفت وجهات النظر بشأن هذه الآلية وجاء في اللحظات الأخيرة من هذا المؤتمر الدبلوماسي ما يفض هذا الاشتباك بإضافة فقرة خاصة هي نص الفقرة الثانية بند “أ” بأنه يجوز للأطراف السامية المتعاقدة عند التصديق أو الانضمام لهذا البروتوكول أن تعترف قبل أي طرف سامٍ متعاقد آخر يقبل الالتزام باختصاص اللجنة أن تعترف بقبول اختصاص اللجنة الدولية لتقصي الحقائق. وهذه الإضافة في اللحظات الأخيرة أخرجت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق من الطابع الإلزامي على كافة الدول الأطراف في البروتوكول الإضافي الأول إلى ضرورة صدور إعلان عند الانضمام أو لاحق لأحكام هذا البروتوكول تقبل بموجبه الدولة اختصاص اللجنة الدولية لتقصي الحقائق.

وهذا ما تحقق بالفعل إذا ما نظرنا إلى عدد الدول المصدقة على البروتوكول (اللحق) الإضافي الأول وعددها 176 دولة نجد أن هناك 81 دولة فقط قبلت باختصاص اللجنة الدولية لتقصي الحقائق.

 إذن أصبح مناط الالتزام بالمادة 90 من البروتوكول الإضافي الأول أو الالتزام باختصاص هذه اللجنة يعود في المقام الأول لإرادة الدولة بإصدار هذا الإعلان الخاص المستقل عند الانضمام أو بعد الانضمام إلى البروتوكول الإضافي الأول. وهناك أيضًا طابع آخر غير ملزم لاختصاص هذه اللجنة يتمثل فيما ورد بالبند “د” من الفقرة الثانية وهي حالة الموافقة الخاصة من إحدى الدول التي لم تصدر إعلانًا خاصًا بقبول اختصاص اللجنة بأن تختص اللجنة للتحقيق في واقعة معينة، وهنا يكون هذا هو موافقة خاصة من الدولة بالتحقيق في واقعة معينة. نخلص من ذلك إلى أن الالتزام بهذه اللجنة يتوقف على إرادة الدول الأطراف في هذا اللحق الإضافي الأول.

2ـ اللجنة الدولية لتقصي الحقائق مكملة لآلية التحقيق الخاصة باتفاقيات جنيف:

اللجنة الدولية لتقصي الحقائق الواردة في اللحق (البروتوكول) الأول لم تنسخ ولم تلغ أحكام التحقيق الواردة في المادة المشتركة (52، 53، 132، 149) بين اتفاقيات جنيف إنما جاءت مكملة لهذه الأحكام فتظل الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف بحسب الأصل ملزمة بآلية التحقيق الواردة في هذه الاتفاقيات ويضاف إليها أحكام اللجنة الدولية لتقصي الحقائق، وهو ما يتضح بصريح نص البند “هـ” من الفقرة الثانية من المادة سالفة الذكر.

3ـ اختصاص هذه اللجنة مقيد بالنزاعات المسلحة الدولية فقط:

تختص اللجنة الدولية لتقصي الحقائق المنصوص عليها في المادة 90 سالفة الذكر بالتحقيق في الانتهاكات الجسيمة التي ترتبط بالنزاعات المسلحة الدولية فقط ولا مجال لاختصاصها في النزاعات المسلحة غير الدولية. فضلاً عن ذلك فإن البند “ج” من الفقرة الثانية قد حدد اختصاصات اللجنة بالتحقيق في الوقائع المتعلقة بأي ادعاء خاص بانتهاك جسيم، والعمل على إعادة احترام أحكام الاتفاقيات وهذا البروتوكول الإضافي الأول الخاص بالنزاعات المسلحة الدولية من خلال المساعي الحميدة.

إذن هذه اللجنة ينصرف اختصاصها إلى أمرين، الأمر الأول هو التحقيق في الانتهاكات، وإذا ما خلصت إلى وجود هذه الانتهاكات فإنها تصدر توصيات لأطراف النزاع لرفع هذه الانتهاكات. وفضلاً عن ذلك فإنه ليس هناك إلزام على اللجنة بنشر تقرير بالنتائج التي توصلت إليها، ولا يجوز لها أن تنشر هذا التقرير علنًا إلا إذا طلب منها ذلك جميع أطراف النزاع. فضلاً عن ذلك فإن الإجراءات وطبيعة التحقيق المنوطة باللجنة الدولية لتقصي الحقائق تجعل منها لجنة قضائية في إجراءاتها وصولاً إلى التحقيق في هذا الانتهاك، وإضافة اختصاص بذل المساعي الحميدة بين أطراف النزاع كما جاء في البند “ج” من الفقرة الثانية يجعل هناك نوعًا من الخلط بين الاختصاصات القضائية لهذه اللجنة والاختصاصات الدبلوماسية من خلال بذل المساعي الحميدة.

خلاصة القول أن الآليات الرقابية التي عرضنا إليها فيما تقدم والتي تدرجت من الدول الحامية التي تطبق هذه الاتفاقيات تحت إشرافها وبمراقبتها، مرورًا بآليات التحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني الواردة في اتفاقيات جنيف الأربع، ثم اللجنة الدولية لتقصي الحقائق المستحدثة بموجب البروتوكول (اللحق) الإضافي الأول لعام 1977 لم يكتب لها النجاح في مجمل أعمالها لأن الدول عندما نصت على إنشائها كآليات للرقابة قيدتها دائمًا بشرط يستلزم بموجبه موافقة الدول على إعمال هذه الآليات، الأمر الذي نال كثيرًا من هذه الآليات الرقابية، فهل هناك دور رقابي للجنة الدولية للصليب الأحمر في هذا الشأن، هذا ما سنتعرض له فيما يلي.

رابعًا- دور اللجنة الدولية للصليب الأحمرعند انتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني

تتعرض اللجنة الدولية للصليب الأحمر لموقف غاية في الدقة في مواجهة انتهاكات أحكام القانون الدولي الإنساني. وموقف اللجنة الدولية في هذا الشأن يجب أن يتلاءم مع عاملين أساسيين، أولهما: رقابة تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني والسهر على احترامها. والثاني: حماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة. ومن أصعب الإشكاليات التي تواجه القانون الدولي العام هي المسائل المتعلقة بالرقابة على الدول، وبصفة خاصة فيما يتعلق بالقانون الدولي الإنساني الذي يرتبط أساسًا بالنزاعات المسلحة، وعلى الرغم من تعدد الآليات التي عرضناها في الفصل الأول من هذا الباب والتي وردت ضمن اتفاقيات جنيف وبروتوكوليها الإضافيين، فإن عدم وجود سلطة فوق سلطات الدول تراقب تطبيق هذه الآليات يجعل عديدًا من الانتهاكات لأحكام القانون الدولي الإنساني تمر دون مساءلة أو عقاب. واللجنة الدولية للصليب الأحمر في هذا الإطار تجد نفسها في مواجهة هذا الأمر الدقيق المرتبط بانطباق آليات احترام القانون الدولي الإنساني وفي ذات الوقت هي منظمة إنسانية جلّ اهتمامها هو حماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة، ومن أجل تقديم خدماتها في النزاعات المسلحة فإن اللجنة يجب أن تعمل وفق مبادئ الحركة الدولية للصليب الأحمر وأهمها الحياد وعدم التحيز وتسعى لإقامة حوار بنّاء وثقة مع أطراف النزاع حتى تتمكن من أداء مهامها في هذه الظروف الصعبة التي تحيط بالنزاعات المسلحة.

من أجل ذلك انفردت اللجنة الدولية بمنهج عمل خاص بها هو “منهج السرية” الذي يضيف أعباء على اللجنة الدولية للصليب الأحمر عند التعاطي مع انتهاكات القانون الدولي الإنساني من أجل صون صالح ضحايا النزاعات المسلحة. ومن ثم ستنقسم الدراسة حول دور اللجنة إلى نقطتين الأولى الإجراءات التي يمكن للجنة الدولية للصليب الأحمر أن تتخذها في مواجهة الانتهاكات، والثانية اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنهج السرية.

Iـ الإجراءات التي يمكن للجنة الدولية للصليب الأحمر أن تتخذها في مواجهة الانتهاكات

عند انتهاك أحكام القانون الدولي الإنساني يمكن للأطراف أن يتوجهوا إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأحد أمرين، الأول: هو تقديم شكوى للجنة الدولية للصليب الأحمر حول انتهاك جسيم لأحكام القانون الدولي الإنساني ويطلب منها اتخاذ موقف حيالها أو إعلان موقفها إزاء هذا الانتهاك، والثاني: هو تقديم طلب للجنة الدولية للصليب الأحمر لتسجيل ارتكاب بعض الانتهاكات أو تقصي وجه الحقيقة بشأنها، على التفصيل التالي:

1ـ تلقي ونقل الشكاوى:

منحت المادة الخامسة الفقرة الثانية في البند (ج) من النظام الأساسي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر لعام 1986 اللجنة الدولية للصليب الأحمر دورًا هامًا من أجل النهوض بالمهام الموكلة إليها في اتفاقيات جنيف للسعي إلى التطبيق الأمثل للقانون الدولي الإنساني المطبق في زمن النزاعات المسلحة، وفي تلقي أي شكوى بادعاء انتهاك أحكام هذا القانون.

ولم يكن هذا الحكم مستحدثًا في النظام الأساسي للحركة الدولية المعتمد عام 1986، وإنما حرصت كل قرارات المؤتمرات الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر منذ اعتماد أول نظام أساسي للحركة في المؤتمر الدولي الثالث عشر المنعقد في لاهاي عام 1928 والذي تمت مراجعته في المؤتمر الدولي الثامن عشر المنعقد في تورنتو عام 1952 على كفالة الحق في تلقي الشكاوى للجنة الدولية للصليب الأحمر.

ويمكن في هذا الصدد تقسيم هذه الشكاوى إلى فئتين:

الفئة الأولى: وتشمل الشكاوى التي تتعلق بعدم تطبيق أو بسوء تطبيق واحد أو أكثر من أحكام هذه الاتفاقيات بواسطة السلطة المسؤولة بشأن الأفراد الذين تحميهم هذه الاتفاقيات، في ظروف تستطيع فيها اللجنة الدولية للصليب الأحمر اتخاذ إجراءات مباشرة لصالح هؤلاء الأفراد، وبحيث يكون أيضًا في استطاعة مندوبي اللجنة الدولية التأكد من مدى صحة هذه الشكاوى. وفي هذه الحالة تتخذ اللجنة الدولية الإجراءات المناسبة لوقف أسباب الشكوى. ويتحقق ذلك مثلاً عند زيارة معسكرات أسرى الحرب أو المحتجزين المدنيين، في هذه الحالة يكون تدخل اللجنة لدى السلطات لرفع الانتهاكات أو إكمال أي نقص في المعاملة يكون مندوبو اللجنة قد رصدوه أثناء زياراتهم.

الفئة الثانية: تشمل شكاوى تتعلق بانتهاكات جسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني والتي ترتكب في ظروف لا تستطيع اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تتخذ فيها إجراءًا مباشرًا لمساعدة الضحايا. وقد تتعلق هذه الانتهاكات الجسيمة بالقواعد المتعلقة بإدارة العمليات العسكرية أو بانتهاكات ترتكب في مسرح العمليات العسكرية بعيدًا عن متناول مندوبي اللجنة، وهذه الفئة من الشكاوى هي التي واجهت اللجنة الدولية صعوبات عملية في التعامل معها.

ويشير الواقع إلى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر عندما استمرت في نقل الاحتجاجات والشكاوى للأطراف المعنية، لم تتلق ردًا عليها، وبالتالي ظلت هذه الشكاوى قائمة دون البت فيها وهو الأمر الذي يفتح المجال لإعمال آلية التحقيق بشأنها. وفيما يلي نعرض لآلية التحقيق ليس كما سبق وأن تناولناها بالبحث من الحديث عن الآليات الرقابية، ولكن من خلال موقف اللجنة الدولية للصليب الأحمر من طلبات التحقيق.

2ـ طلبات التحقيق:

في معرض الحديث عن الآليات الرقابية لكفالة احترام القانون الدولي الإنساني، تعرضنا لآلية التحقيق، والتي كانت قائمة في اتفاقية جنيف لعام 1929، والتي ورد النص عليها في المواد المشتركة أرقام (52، 53، 132، 149) من الاتفاقيات الأربع لعام 1949 والتي تنص على أنه بناءً على طلب أي طرف في نزاع، يجري تحقيق على نحو يتفق عليه بين الأطراف المعنية بشأن أي انتهاك مزعوم للاتفاقية.

ولقد حددت هذه المادة المشتركة أن الدور الرئيسي لإنفاذ هذه الآلية تقوم به الدول الأطراف في الاتفاقيات الأربع، ولم تتطلب من اللجنة الدولية للصليب الأحمر أية مشاركة في إجراءات التحقيق ولكنها في ذات الوقت لم تستبعد ذلك.

وفي أثناء الحرب بين إيطاليا وإثيوبيا عام 1936، ساعدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من خلال بذل المساعي الحميدة لتشكيل لجنة للتحقيق في ادعاءات الطرفين وتحديد المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة المدعاة، وتواصلت جهود اللجنة الدولية في هذا الشأن وانتهت الأعمال العدائية بين الطرفين دون أن تتوصل اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى إنجاح مساعيها في تشكيل لجنة التحقيق.

وكان الفشل الذي تحقق لمساعي اللجنة الدولية دافعًا لإعادة تقييم الموقف الخاص باللجنة الدولية إزاء إجراءات التحقيق، وأعدت مذكرة نشرت في 12/9/1939 تتضمن خطوطًا إرشادية في هذا الشأن ونظرًا لأهميتها فإننا نعرض فيما يلي لأهم عناصرها.

بعد أن ذكرت اللجنة الدولية بأولوية عمل الإغاثة ومساعدة الضحايا بالنسبة لها، حددت مجموعة من الضوابط تحدد مشاركتها في إجراءات تشكيل لجنة دولية للتحقيق في أي انتهاك يدعى وقوعه بالمخالفة لقواعد “القانون الدولي الإنساني”:

– إن اللجنة الدولية لا تستطيع ولا يمكن لها أن تجعل من نفسها لجنة للتحقيق أو محكمة تحكيم، ولا تعين أعضاءها كمحققين أو محكمين.

– ستبذل اللجنة الدولية مساعيها الحميدة من أجل تعيين واحد أو أكثر من الأشخاص المؤهلين، من خارج أعضاء اللجنة الدولية، للاضطلاع بالتحقيق وإعلان نتائجه.

تلك هي أهم العناصر التي توضح الخطوط الإرشادية للجنة الدولية من لجان التحقيق الدولية، وهنا أيضًا نرى حرص اللجنة الدولية على ألا تصرفها هذه الأمور عن مهمتها الأساسية في مساعدة وحماية ضحايا النزاعات المسلحة والحرص أيضًا على ما قد يؤثر على عملها الحيادي في مواجهة أطراف النزاع.

IIـ اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنهج السرية

دائمًا ما يثور التساؤل حول موقف اللجنة الدولية للصليب الأحمر من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني التي يرصدها مندوبيها في ميادين القتال، فإذا كانت الدول المتحاربة تعوق إجراءات التحقيق في هذه الانتهاكات وتحاول بكل السبل أن تضع مبررات لتلك الأفعال فما هو موقف اللجنة الدولية في هذا الشأن؟

بدايةً تجدر بنا الإشارة إلى أنه على الصعيد القانوني لا يوجد نص قانوني في اتفاقيات جنيف أو بروتوكوليها الإضافيين لعام 1977 أو في النظام الأساسي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، يمنح اللجنة الدولية سلطة اتخاذ موقف علني إزاء انتهاكات القانون الدولي الإنساني، ولكن في ذات الوقت فإن هذه المواثيق لا تتضمن نصوصًا تمنعها من القيام بذلك.

واللجنة الدولية للصليب الأحمر بما لها من شخصية قانونية مستقلة وتعمل وفقًا للنظام الأساسي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر قادرة على النهوض بالمهام الموكلة إليها بموجب اتفاقيات جنيف والعمل على التطبيق الأمثل لقواعد القانون الدولي الإنساني المنطبقة في زمن النزاعات المسلحة وتلقي الشكاوى الخاصة بادعاء ارتكاب انتهاكات لأحكام هذا القانون. وتملك اللجنة بموجب النظام الأساسي اتخاذ مواقف علنية إزاء هذه الانتهاكات. وليس معنى أن اللجنة الدولية تتمتع بهذا الاختصاص أن تلجأ إلى اتخاذ مواقف علنية دائمًا.

حقيقة الأمر، أن اتخاذ مواقف علنية إزاء ارتكاب انتهاكات جسيمة من أحد أطراف النزاع تتعارض في كثير من الأحيان مع المهمة الأساسية للجنة الدولية في مساعدة وحماية ضحايا النزاعات، وقد تعوق وصول اللجنة الدولية إلى الضحايا أو تعريضهم لإجراءات انتقامية.

وفي هذا الإطار تحاول اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تصل إلى حل لهذه المعادلة الصعبة، فلا تتخذ مواقف علنية إلا إذا قدرت صالح الضحايا، فإذا كان الخروج للعلن يحقق مصلحتهم قامت بذلك، وإن كان لا يحقق مصلحتهم لا تقوم بذلك. وهناك مرحلة هامة لتعامل اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع هذه الانتهاكات الجسيمة وقبل الفصل في مسألة اتخاذ موقف علني من عدمه وهي مرحلة المفاوضات السرية مع الأطراف المعنية لوقف الانتهاكات. فمن خلال هذه المفاوضات السرية في مواجهة الحكومات المعنية تحاول اللجنة الدولية وقف هذه الانتهاكات. وترى اللجنة الدولية أن هذا المنهج في العمل يوفر لها معادلة خاصة بها لا تنال من ثقة الحكومات في عملها وتتفق والغرض الذي تأسست من أجله وهو صالح ضحايا.

ونشير في هذا الصدد إلى الطبيعة القانونية للجنة الدولية للصليب الأحمر وهي أنها أحد أشخاص القانون الدولي، وذات طبيعة خاصة SuiGeneris، وهذا الوضع القانوني الدولي المتميز للجنة الدولية للصليب الأحمر يمنحها حصانة خاصة بالمثول أمام المحاكم للإدلاء بالشهادة.

ويقينًا فإن المجتمع الدولي وقد منح اللجنة الدولية هذه الحصانة دون غيرها من المنظمات الدولية الحكومية أو غير الحكومية أو حتى باقي مكونات الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، يعلم جيدًا أهمية منهج عمل اللجنة الدولية من أجل الوصول إلى الضحايا. فلو عهدنا للجنة الدولية بمهمة الشرطي أو القاضي لتعذر عليها في المقابل القيام بالمهمة الأساسية التي من أجلها تأسست كأقدم منظمة إنسانية. فمبدأ السرية يحقق للجنة أن تتمتع بثقة الحكومات ومن ثم تبقى دائمًا أبواب الوصول إلى الضحايا مفتوحة أمامها، وفي ذات الوقت تتيح للجنة الدولية فتح قناة مباشرة للمفاوضات السرية من أجل وقف الانتهاكات. ومنح اللجنة الدولية حصانة من المثول أمام المحاكم للإدلاء بالشهادة هي من لزوم دعم منهج عمل اللجنة بسرية.

وفيما يلي سنتطرق لنقطتين هامتين وهما السرية وحدودها ثم منح اللجنة الدولية حصانة من المثول أمام المحاكم للإدلاء بالشهادة.

1- منهج السرية

منذ نشأتها واللجنة الدولية تحرص على حيادتها وتكرس مكانة كبيرة لمنهج العمل الخاص بها من خلال المفاوضات السرية، ولكن هذه المفاوضات السرية قد لا تحقق نتائج من أجل وقف الانتهاكات، وفي هذه الحالة ماذا تفعل اللجنة الدولية؟

نستطيع أن نجيب هذا التساؤل من خلال الوثيقة المنشورة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في المجلة الدولية للصليب الأحمر في شهر أبريل/ نيسان عام 1981 والتي بلورت من خلالها تمسك اللجنة الدولية بمنهجها في العمل من خلال المفاوضات السرية لمنع أو لوقف الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني، وبعد ذلك ذكرت صراحةً أنه استثناءً على هذا المنهج وخروجًا على قاعدة المفاوضات السرية تستطيع اللجنة الدولية الخروج إلى العلن إذا اجتمعـت الشروط الأربعة التالية:

أ- إذا تعلق الأمر بانتهاكات متكررة وجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني.

ب- إذا لم تفلح المفاوضات السرية في وضع حد لهذه الانتهاكات.

ج- إذا تحقق لمندوبي اللجنة الدولية أن يكونوا شهودًا على هذه الانتهاكات أو كانت قد نقلت إليهم من مصادر موثوقة أو كانت معلومة للجميع.

د- إذا كان الإعلان عن هذه الانتهاكات في صالح المجتمع أو الأشخاص المتضررين أو المهددين بها.

واللجنة الدولية لا تخرج إلى العلن إلا إذا تحققت الشروط الأربعة مجتمعة، ولا يمكن القول بأن هناك معيارًا واحدًا يمكن الاعتماد عليه في كل الحالات، فعند تقدير هذه الشروط وبصفة خاصة الشرط الأخير المرتبط بصالح الضحايا فإنه يلزم بحث كل حالة على حدة وتقييم الموقف في ضوء الاعتبارات والمعطيات الخاصة بهذه الحالة.

وعبر تاريخ اللجنة الدولية للصليب الأحمر تمكن لنا أن نرصد حالة خرجت فيها اللجنة الدولية حديثًا إلى العلن بشأن انتهاكات محددة للقانون الدولي الإنساني:

ـ البيان العلني بشأن أوضاع الأشخاص المحرومين من حريتهم في ميانمار والصادر بتاريخ 29/6/2007:

وفي هذا البيان العلني أوردت اللجنة الدولية أنها خلال الفترة من عام 1999 وحتى عام 2005 قامت بالعديد من الأنشطة الإنسانية في ميانمار ولاحظت وجود تفاعل من السلطات بشأن تحسين الأوضاع الإنسانية في مجالات عديدة.

ومن أجل قيام اللجنة الدولية بالمهام الإنسانية الموكلة إليها من قبل المجتمع الدولي فإنه يلزمها أن يكون هناك حوار جدي وفعال مع الحكومة المعنية وأن يسمح لها بالعمل كمنظمة إنسانية محايدة ومستقلة. وهو الأمر الذي لم يتحقق للجنة الدولية خلال العامين المنصرمين. فمنذ الأول من ديسمبر/ كانون الأول عام 2005، حظرت الحكومة أنشطة اللجنة الدولية في مناطق عديدة وأخضعتها لقيود مشددة، الأمر الذي حال بين اللجنة الدولية وبين تقديم المساعدات اللازمة التي يحتاج إليها الآلاف من المحتجزين ومن المدنيين المتواجدين في المناطق الحدودية بين تايلاند وميانمار.

نخلص مما سبق إلى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تحرص على منهج السرية في العمل، من خلال ضوابط تهدف إلى تمكينها من العمل لحماية ومساعدة الأشخاص المتضررين بسبب انعدام الأمن والعنف والنزاع المسلح والمحافظة على إمكانية الوصول إليهم. وبذلك فإن السرية التي تنتهجها اللجنة الدولية هي عامل يساعدها على بناء الثقة وفتح قنوات الاتصال وإحداث تغيرات. وكما أسلفنا فإن لهذه السرية حدود وعندما تتحقق شروط محددة تخرج اللجنة إلى العلن كما هو الحال في المثال المذكور عن ميانمار. كما أن البيانات الصحفية التي تصدر عن اللجنة الدولية، والتي أوردنا بعض الأمثلة لها، تعد أيضًا من الأهمية بمكان لأنها تسلط الضوء على انتهاكات للقانون الدولي الإنساني دون إدانة ما، وهو الدور الذي تضطلع به اللجنة الدولية للصيب الأحمر من خلال مهمتها كحارس للقانون الدولي الإنساني دون أن يخالف ذلك منهج عمل اللجنة الذي يعتمد على السرية.

ولا شك في أن هذا المنهج الفريد في العمل بين المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، يعطي اللجنة الدولية مصداقية كبيرة عندما تتعامل مع الحكومات ومع أطراف أي نزاع مسلح، وتتجسد أهميته في الواقع العملي من خلال استمرار اللجنة في عملها رغم وجود انتهاكات أو من خلال إتاحة فرصة للجنة الدولية للعمل في مجال زيارة المحتجزين لأسباب أمنية خارج نطاق النزاعات المسلحة والتي تضطلع بها اللجنة بموجب اتفاقيات خاصة مع بعض الحكومات.

ولولا منهج السرية الذي تعتمده اللجنة لما أمكنها إبرام مثل هذه الاتفاقيات التي تتيح لفئة كبيرة من المحتجزين الاستفادة من خدمات الحماية والمساعدة التي يقدمها مندوبو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكما سبق لنا الحديث في التقديم لمنهج السرية، فإن احترام منهج عمل اللجنة الدولية على هذا النحو استلزم من المجتمع الدولي كفالة حق اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عدم الإدلاء بالشهادة كنتاج طبيعي لاحترام منهج السرية في العمل.

2- حق اللجنة الدولية في عدم الإدلاء بشهادة:

من الأهمية بمكان عند الحديث عن الحصانة الممنوحة للجنة الدولية في عدم الإدلاء بالشهادة أن نذكر بأنه عند الحديث عن “الشخصية القانونية” والتي كانت قاصرة في القانون الدولي على الدول بمفردها، ثم انسحبت بعد ذلك إلى المنظمات والتي عادةً ما ترتبط بالهياكل الحكومية في القانون الدولي ومن ثم فإن الأمم المتحدة ووكلائها والمنظمات الدولية الحكومية مثل منظمة الدول الأمريكية والاتحاد الأفريقي لها شخصية قانونية دولية. على حين أن المنظمات التي لا تتكون من دول، أي المنظمات غير الحكومية، كمنظمة العفو الدولية، لا تكون لها شخصية قانونية دولية على الرغم من أن نطاق عملها على الصعيد الدولي، واللجنة الدولية للصليب الأحمر على الرغم من أنها لا تتكون من دول فإن لها شخصية قانونية دولية، جعلها في وضع فريد Sui Generis تتمتع من خلاله بوضع مماثل للمنظمات الحكومية الدولية.

على الرغم من أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 ولحقيها الإضافيين لعام 1977 هي الصكوك الأساسية التي تمنح اللجنة الدولية للصليب الأحمر جزء كبير من اختصاصاتها إلا أنها لم تتضمن أية أحكام خاصة بالنص على حق اللجنة في عدم الإدلاء بالشهادة أو تقديم أدلة تتصل بعملها. إلا أن هناك ثلاثة مصادر رئيسية يُعترف فيها بهذا الحق للجنة الدولية للصليب الأحمر وهي:

أ- القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات أمام المحكمة الجنائية الدولية:

أوردت المادة 73 من القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات أمام المحكمة الجنائية الدولية النص على أن تجرى مشاورات بين اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمحكمة عندما تعتقد الأخيرة أن المعلومات ذات أهمية قصوى في قضية معينة. وتحتفظ اللجنة الدولية مع ذلك بالقرار النهائي بشأن الإدلاء بأي معلومات. وهذه المادة نص صريح على حصانة اللجنة الدولية فيما يخص الإدلاء بالشهادة. ولم يُمنح هذا الامتياز لأي منظمة أخرى سواء أكانت حكومية أو غير حكومية. وتعكس هذه المعاملة الاستثنائية التي منحت للجنة الدولية تقدير الدول لوضعها ودورها الفريد في العالم.

ب- اتفاقيات المقر التي وقعتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع أكثر من ستون دولة، هي معاهدات دولية. وحيث إنها تتضمن الموافقة الصريحة من الحكومات على احترام سرية اللجنة الدولية للصليب الأحمر وحرمة مقارها ووثائقها وكذلك تكفل لجميع العاملين في البعثة حصانة من المثول للإدلاء بالشهادة فيما يتصل بعمل اللجنة الدولية أمام القضاء الوطني.

ج- قررت غرفة محاكمة بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، في قضية المدعي العام ضد سيميتش وآخرين (Simićcase)، أنه بناءً على القانون الدولي العرفي، تتمتع اللجنة الدولية للصليب الأحمر بحق مطلق في الاحتفاظ بسرية معلوماتها.

ومن أهم النقاط الواردة في هذا الحكم الصادر عن محكمة يوغوسلافيا ما يلي:

• اللجنة الدولية للصليب الأحمر كيان ونظام فريد، ولها شخصية قانونية دولية ووضع خاص في القانون الدولي.

• يمثل اختصاص اللجنة الدولية للصليب الأحمر بحماية ضحايا النزاعات المسلحة مصلحة عامة للمجتمع الدولي بأسره.

• ترتبط قدرة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بتنفيذ التفويض الدولي الممنوح لها بموجب اتفاقيات جنيف على استعداد الأطراف المتحاربة بتمكين اللجنة من الوصول إلى الضحايا، ويعتمد استعداد الأطراف على التزام اللجنة بمبادئها الخاصة بالحياد وعدم الانحياز ومنهج عملها المرتبط بمبدأ “السرية”.

• إن التصديق على اتفاقيات جنيف من قبل 196 دولة، واعتراف الأمين العام للأمم المتحدة بالدور الخاص للجنة الدولية للصليب الأحمر في العلاقات الدولية، والممارسات التاريخية والآراء الرسمية التي تعبر عنها الدول فيما يخص سرية اللجنة الدولية للصليب الأحمر تعطي دفعة لقاعدة من القانون الدولي العرفي تمنح بموجبها اللجنة الدولية للصليب الأحمر حقًا مطلقًا في عدم إفشاء المعلومات المتعلقة بعملها. تلك كانت أهم العناصر التي وردت بقرار المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بشأن حق اللجنة الدولية في عدم الإفشاء بالمعلومات المتعلقة بعملها.

ولا شك في أن ما خلصت إليه المحكمة في قرارها السابق من أن تنفيذ اللجنة الدولية للتفويض الدولي الممنوح لها لحماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة يرتبط بتمكين الدول والأطراف المتحاربة لها للقيام بذلك، وكون اللجنة الدولية منظمة محايدة، مستقلة، وتعمل بعدم انحياز وفق آلية أو منهج خاص بها وهو “السرية”، فإن ذلك هو ما يشجع الدول والأطراف المتحاربة على تمكين اللجنة الدولية من القيام بوظائفها. وعدم الإدلاء بالشهادة وعدم إفشاء المعلومات التي تتحصل عليها اللجنة الدولية للصليب الأحمر على هذا النحو يعتبر متماثلاً مع منهج “السرية” أو بمعنى أدق لو أن تسهيل عمل اللجنة وتواصل الضحايا معها يرتبط بعلمهم أنها منظمة فريدة في منهج عملها ولن تفضح المعلومات التي تتحصل عليها بمناسبة عملها، ثم عرف أن اللجنة لا تملك حق رفض الإدلاء بالشهادة أو تقديم المعلومات فإن هذه السرية ستكون محدودة بوقت العمل فقط ثم يتم فضح كل شيء أمام الإجراءات القضائية بما يفرغ منهج السرية من محتواه. وهذا هو ما قصدته محكمة يوغوسلافيا من الحديث عن أن عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر هو “مصلحة عامة” تهم المجتمع الدولي بأسره. وتغليب هذه المصلحة العامة اقتضى في واقع الحال منح اللجنة هذا الاستثناء لتكفل لها السرية المطلقة أثناء أداء مهامها وبعد ذلك أيضًا.

Menu