bx-arrow-back المقالات

14 مارس، 2022

نشأة وتطور أنشطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيكلها التنظيمي ومواردها

شهدت اللجنة الدولية خلال تاريخها الطويل العديد من التطورات في نطاق عملها وفي الاختصاصات المنوطة بها، ودائماً ما ارتبط تطور اللجنة الدولية بمتطلبات عملها الإنساني وما يستجد من تحديات تواجه هذا العمل، وكما شهدت اللجنة الدولية تطوراً في نطاق عملها، فقد شهدت كذلك تطوراً في هيكلها التنظيمي.

ويتناول هذا المبحث نشأة اللجنة الدولية وتطور أنشطتها كما يلقي الضوء على هيكلها التنظيمي ومصادر تمويلها.

المطلب الأول: نشأة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وتطور أنشطتها

إن تاريخ نشأة اللجنة الدولية يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، ففي إحدى حلقات الكفاح من أجل تحرير الأراضي الإيطالية المحتلة من النمسا، اشتبكت – في 24 يونيو/ حزيران عام 1859–  قوات فرنسا وإيطاليا مع قوات النمسا في معركة دارت بشمال إيطاليا بالقرب من قرية سولفرينو. وتعد هذه المعركة من أبشع المعارك التي شهدتها أوروبا، ففي خلال عشر ساعات من القتال العنيف سقط أكثر من 6000 قتيل، وما يقرب من 42000 جريح.

وألقت الأقدار برجل الأعمال السويسري هنري دونان في المكان الذي وقعت فيه هذه المعركة بينما كان في طريقه إلى رحلة تجارية في إيطاليا، ولما كان هذا الشاب من مرهفي الحس المنخرطين في الأنشطة الإنسانية في سويسرا، فقد راعه ما شاهده من آلاف الجرحى الذين لم يجدوا في الخدمات الطبية العسكرية العون الكافي، فهب مشتركاً مع المواطنين في مساعدة هؤلاء التعساء، وكانت هذه التجربة نقطة فاصلة في حياة هنري دونان الذي أصبح شغله الشاغل منذ ذلك الحين هو البحث عن وسيلة لتخفيف آلام مثل أولئك الجرحى في الحروب.

وعند عودته إلى سويسرا عكف دونان على تدوين مشاهد البؤس والمعاناة لآلاف الجرحى الذين لا يجدون رعاية طبية كافية  التي شاهدها في موقعة سولفرينو، وفى عام 1862 عرض هذه المشاهد في كتابه “تذكار سولفرينو” الذي لقي صدى في جميع أنحـاء العالم، وفـى أقـل من عام واحد ظهرت العديد من طبعات هذا الكتاب وترجم إلى اللغات الإنجليزية، والهولندية، والإيطالية، والسويدية، والروسية، والإسبانية، والألمانية.

وفى نهاية كتابه طرح دونان تساؤلين، الأول هو: “ألا توجد وسيلة لتكوين لجان إغاثة خلال فترة السلام والهدوء تهدف إلى تقديم الرعاية للجرحى في زمن الحرب بواسطة متطوعين متحمسين ومتفانين ومؤهلين   جيداً لمثل هذا العمل؟”، والثاني هو: “ألا يستحسن الاستفادة من المؤتمرات لوضع مبدأ دولي ما، اتفاقي ومقدس، يصبح – متى أقر وصدق عليه- أساساً تقوم عليه جمعيات لإغاثة الجرحى في مختلف بلدان أوروبا؟”.

وسرعان ما أجاب أربعة مواطنين سويسريين (غيوم هنري دوفور، وغوستاف مونييه، ولوي أبيا، وتيودور مونوار) عن التساؤل الأول، وأسسوا هم وهنري دونان – في عام 1863– اللجنة الدولية لإغاثة الجنود الجرحى التي أصبحت فيما بعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وافتتحت اللجنة الدولية أول مؤتمراتها الدولية في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1863 بحضور ممثلين عن أربع عشرة دولة، وأصدر هذا المؤتمر عشرة قرارات كان أولها أنه يتعين على كل دولة أن تنشئ لجنة تكون مهمتها أن تساعد بكل الوسائل الخدمات الطبية للجيش في حالة الحرب.

وتلاحقت الأحداث وتحققت الاستجابة للتساؤل الثاني الذي طرحه دونان في “تذكار سولفرينو”، فبمبادرة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر انعقد المؤتمر الدبلوماسي لعام 1864 الذي حضرته 16 دولة اعتمدت اتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى الجيوش في الميدان.

وفي غضون الست سنوات التي تلت المؤتمر الدبلوماسي لعام 1864، تأسست العديد من الجمعيات الوطنية في بلدان عديدة، وأصبحت اتفاقية جنيف جزءاً من قانون الشعوب. وكانت نشأة اللجنة الدولية من أجل تحقيق ما خلص إليه دونان في كتابه، وبالتالي كان يمكن أن تنسحب هذه اللجنة من مجال العمل الدولي بعد ما تحقق لها ما أرادت، ولكنها وجدت نفسها مدفوعة إلى الانخراط في نشاط جديد لم يكن متوقعاً هو التواجد على مسرح العمليات العسكرية وتقديم العون لضحايا الحروب. فتحولت اللجنة الدولية – أحياناً رغماً عن إرادتها – إلى وسيط محايد بين الأطراف المتحاربة تعمل لصالح ضحايا الحروب . ولا يتسع المجال هنا لعرض تطور أنشطة اللجنة خلال الحروب المختلفة التي شهدها العالم، ولكننا سنتناول بإيجاز أهم ملامح هذا التطور.

-1 أنشطة اللجنة الدولية منذ نشأتها وحتى تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى (1863-1914):

بعد أن ظهرت اللجنة الدولية للوجود بمبادرة من غوستاف مونييه في 9 فبراير/ شباط 1863، اقترح هو ودونان وضع مشروع لتنفيذ اقتراحي دونان الواردين في هذا الكتاب والخاصين بإنشاء لجان إغاثة وطنية في وقت السلم تعمل على رعاية الجرحى في وقت الحرب، ووضع مبدأ دولي، اتفاقي ومقدس، يصبح – متى أقر وصدق عليه – أساساً تقوم عليه هذه اللجان في مختلف بلدان أوروبا. وفى هذا الاجتماع وافقت الجمعية على هذا الاقتراح وأحالته إلى لجنة لإعداد ملف بهذا الشأن يعرض على المؤتمر الدولي للرخاء المزمع عقده في برلين في سبتمبر/ أيلول 1863.

وبعد أن قامت اللجنة بالإعداد لعرض أفكارها على المؤتمر الدولي للرخاء الذي كان من المزمع عقده في صيف عام 1863 فوجئت بأن المؤتمر تقرر إلغاؤه، فبادرت اللجنة إلى دعوة الحكومات الأوروبية وعدد من القادة العسكريين والأطباء المشهورين في ذلك الوقت لحضور مؤتمر دولي للرخاء يعقد في جنيف في الفترة من 26 إلى 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1863 وأرفقت بالدعوات مشروع اتفاق من عشر مواد يوضح المبادئ العامة للمشروع المزمع طرحه.

وانعقد المؤتمر في موعده ومهدت القرارات التي اتخذها هذا المؤتمر الطريق لاعتماد أول اتفاقية تتناول تحسين حال الجرحى من العسكريين في العام التالي، وكذلك منح هذا المؤتمر اللجنة الدولية اختصاصاً ضيقاً يقتصر على العمل كوسيط فيما يتعلق بتبادل الاتصال والمعلومات بين اللجان التي دعى إلى إنشائها في كل دولة لمساعدة الخدمات الطبية للجيوش في زمن الحرب.

ولم يقف دور اللجنة الدولية في هذه الفترة عند حد العمل على تبادل المعلومات بين جمعيات الإغاثة، فأثناء النزاعات المسلحة التي اندلعت في أوروبا – في الفترة ما بين نشأة اللجنة الدولية واندلاع الحرب العالمية الأولى – قامت اللجنة الدولية بمبادرة منها بإرسال مندوبين إلى الدول المتحاربة للوقوف على كيفية تطبيق قرارات مؤتمر جنيف.

في عام 1869 اعتمد المؤتمر الدولي الثاني لجمعيات الإغاثة قراراً بأن تعمل اللجنة الدولية – في وقت الحرب – على إنشاء مكتب معلومات واتصال في مكان مناسب لكي يسهل بجميع الوسائل الممكنة تبادل الاتصال بين الجمعيات الوطنية وإرسال إمدادات الإغاثة. وأنشأت اللجنة الدولية أول مكتب للاتصال والمعلومات في عام 1870 في مدينة بازل أثناء الحرب بين فرنسا وبروسيا.

وفى خلال تلك الفترة لم يكن للجنة الدولية قواعد خاصة بها أو نظام أساسي يحكمها واعتمدت اللجنة الدولية في القيام بأنشطتها الإنسانية على القرارات الصادرة من المؤتمرات الدولية للصليب الأحمر التي أعقبت مؤتمر عام 1863، حيث أسفرت المداولات حول دور اللجنة الدولية في المؤتمرين الدوليين الثاني – الذي انعقد في باريس 1867 والثالث – الذي انعقد في برلين عام 1869 – على إسناد مهمة إصدار نشرة دورية تتناول أنشطة جمعيات الإغاثة وتحمل عنوان “النشرة الدولية لجمعيات إغاثة الجرحى” إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ولم يجد جديد – في شأن اختصاصات اللجنة الدولية – في المؤتمر الدولي الرابع الذي انعقد في جنيف في عام 1884، ثم جاء المؤتمر الدولي الخامس للصليب الأحمر المنعقد في عام 1887 والذي قرر أن “هدف اللجنة الدولية للصليب الأحمر هو المحافظة على العلاقات بين الجمعيات الوطنية وتطويرها، والعمل كوسيط بينها، وتدعيم المبادئ الأساسية والموحدة لمؤسسة الصليب الأحمر، وللتعامل مع كل ما يتعلق بالعلاقات الدولية بين جمعيات الصليب الأحمر التي تعمل على إغاثة المرضى والجرحى، وعلى إنشاء وكالات دولية لتبادل المعلومات عن الأسرى في وقت الحرب”.

وفي عام 1897 اقترح الصليب الأحمر الروسي على المؤتمر الدولي السادس منح اللجنة الدولية للصليب الأحمر الاختصاص بالتحقيق في أي ادعاء بحدوث انتهاك لاتفاقية جنيف والعمل على التوصل لحل أي نزاع ينشأ في هذا الصدد بين الأطراف المتحاربة، إلا أن هذا المقترح لم يلق قبولاً نظراً لعدم رغبة اللجنة الدولية في القيام بهذا الدور فضلاً عن اعتراض الدول الأطراف في اتفاقية جنيف على قيام اللجنة الدولية بهذا الدور. ثم جاء المؤتمر الدولي السابع المنعقد في سان بطرسبورج في عام 1902 ليدعو الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر وكذلك اللجنة الدولية للنظر في مسألة توسيع اختصاصاتها لتشمل مساعدة أسرى الحرب، وبالفعل تمت مناقشة هذا الموضوع في المؤتمر الدولي الثامن المنعقد في لندن في عام 1907 والذي أوصى بأن تعمل الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر على مساعدة أسرى الحرب، وفي عام 1912 في المؤتمر الدولي التاسع المنعقد في واشنطن والذي وسع من اختصاصات اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتشمل زيارة وتوصيل المساعدات إلى أسرى الحرب.

2- أنشطة اللجنة الدولية أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918):

  وبالإضافة إلى عملها في مجال مساعدة الجرحى والمرضى من المقاتلين، واجهت اللجنة الدولية تحدياً جديداً خلال الحرب العالمية الأولى تمثل في ضرورة توسيع نطاق عملها ليشمل مساعدة أسرى الحرب. وفى خطاب مؤرخ في 5 أغسطس/ آب عام 1914 ناشدت اللجنة الدولية الجمعيات الوطنية لدعمها في هذا التوسع بتذكيرهم بالقرار رقم 6، الخاص بمساعدة أسرى الحرب، الصادر عن المؤتمر الدولي التاسع للصـليب الأحـمر، وتخطـرهـم بأنها افتتحت فـي جنيف “الوكالة الدولية لمساعدة أسرى الحرب”.

وكانت الوكالة تعمل على تجميع المعلومات عن أسرى الحرب وإرسالها إلى عائلاتهم وتوصيل الرسائل من هذه العائلات إلى الأسرى، كما كانت تجري تحريات عن المفقودين بناءً على طلب عائلاتهم.

وكان المستفيدون من هذه الوكالة هم المرضى والجرحى من رجال القوات المسلحة المحميين بموجب اتفاقية جنيف لعام 1906 وأسرى الحرب من العسكريين المحميين بموجب لائحة لاهاي. إلا أن أعداداً كبيرة من المدنيين كانوا محتجزين من قبل الأطراف المتحاربة ولم يكن يوجد أي أساس قانوني يبرر تمتعهم بخدمات الوكالة الدولية لمساعدة أسرى الحرب. إلا أن اللجنة الدولية ورغم اعتراض بعض الجمعيات الوطنية – قامت بإنشاء قسم خاص بالمحتجزين المدنيين ضمن الوكالة الدولية لمساعدة أسرى الحرب.

وعند توقف العمليات العسكرية نهضت اللجنة الدولية بدور كبير بالتعاون مع الجمعيات الوطنية في إعادة الأسرى إلى أوطانهم، وفى مساعدة المدنيين الذين كانوا يعانون من الجوع والأوبئة.

3- أنشطة اللجنة الدولية في الفترة ما بين الحربين العالميتين (1919-1939):

عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وقع حدث كان له أثر كبير على كل من الجمعيات الوطنية واللجنة الدولية وكذلك على العلاقة التي تربط بينهم. ففي 5 مايو/ آيا رعام 1919 تأسست رابطة الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر، التي تضم في عضويتها الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، والتي أصبحت فيما بعد “الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر”، وفى ظل الظروف التي نشأت فيها هذه الرابطة، والشعور السائد في ذلك الوقت من أن انتهاء الحرب العالمية الأولى ينبئ عن ظهور مجتمع دولي متماسك، اعتقد القائمون على الرابطة أن الأعمال المنوطة باللجنة الدولية للصليب الأحمر أصبحت من اختصاص الرابطة، وحدث خلط وتداخل بين اختصاصات اللجنة واختصاصات الرابطة إذ لم تعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي الجهة الوحيدة التي تعمل على المحافظة على العلاقات بين الجمعيات الوطنية وتطويرها، والقيام بدور الوسيط بينها.

وظل هذا الخلط والتداخل قائماً حتى تم وضع “النظام الأساسي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر” الذي اعتمده المؤتمر الدولي الثالث عشر للصليب الأحمر في لاهاي في أكتوبر/ تشرين الأول 1928. ونص هذا النظام الأساسي على اختصاصات وطبيعة عمل كل مكون من مكونات الحركة الدولية وأجهزتها، على النحو الذي سوف نستعرضه في المبحث الثاني من هذا الفصل.

ومن الناحية العملية واصلت اللجنة الدولية عملها في مجال مساعدة وحماية ضحايا النزاعات المسلحة في الحرب اليونانية التركية (1919-1923) والحرب الإيطالية الإثيوبية (1935- 1936)، والحرب الصينية اليابانية (1937-1939) وقامت اللجنة الدولية أثناء هذه الحروب بتقديم المساعدات الطارئة، وتنسيق جهود الإغاثة الأجنبية العاملة على أراضي الدول المتحاربة فضلاً عن زيارة أسرى الحرب.

وقد شهدت هذه الفترة توسعاً جديداً في نطاق عمل اللجنة الدولية لتشمل أنشطتها مساعدة وحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، إذ قرر المؤتمر الدولي العاشر للصليب الأحمر المنعقد في جنيف عام 1921 أن تنظم اللجنة الدولية – في حالات الحروب الأهلية – أعمال الإغاثة وأن تطلب مساعدة منظمات الإغاثة الأجنبية، بعد الحصول على موافقة الدولة المعنية، وإذا رفضت هذه الدولة مباشرة اللجنة الدولية لهذا النشاط، فعلى الأخيرة أن تصدر بياناً عاماً مدعماً بالوثائق توضح فيه حقيقة الموقف.

وقد اتخذ المؤتمر الدولي العاشر هذا القرار على ضوء الجهود التي بذلتها اللجنة الدولية لمساعدة ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية في كل من الحرب الأهلية الروسية (1917-1921) وضحايا الثورة المجرية (1919) عن طريق تقديم المساعدات وتنسيق جهود الإغاثة. واتخذت اللجنة الدولية هذا القرار فيما بعد أساساً لعملها على مساعدة ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية (1936- 1939).

4- أنشطة اللجنة الدولية خلال الحرب العالمية الثانية (1939–1945):

لم يشهد تاريخ اللجنة الدولية أنشطة بمثل الكثافة التي شهدها خلال الحرب العالمية الثانية التي اندلعت نيرانها في كافة أنحاء العالم، ومع انتشار النزاعات المسلحة تواجدت اللجنة الدولية في كافة أنحاء العالم، فمع نهاية الأعمال العسكرية كان للجنة الدولية ثمانون بعثة، نصفها في أوروبا، والنصف الثاني منتشر في باقي أنحاء العالم([28]).

وواصلت اللجنة الدولية خلال هذه الحرب نشاطها في مجال حماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة من خلال تنسيق عمل الجمعيات الوطنية، كما أسست وكالة مركزية للمعلومات المتعلقة بالأسرى، واستفاد من خدماتها كل من الأسرى والمحتجزين المدنيين.

ورغم أن اتفاقية جنيف لعام 1929 الخاصة بمعاملة أسرى الحرب كانت – بموجب نص المادة 86- تمنح الدول الحامية الاختصاص بحماية مصالح الأطراف المتحاربة مما منح هذه الدول الحامية الاختصاص بزيارة أسرى الحرب، فإن اللجنة الدولية قامت كذلك بدور في هذا الشأن حيث زارت الأسرى بموافقة الدول المعنية استناداً إلى حق المبادرة المعترف به للجنة الدولية بموجب نص المادة 88 من ذات الاتفاقية.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت وكالة الأسرى قد قامت بأعمال غاية في الاتساع، إذ كان لديها حوالى 36 مليون بطاقة للأسرى، وتلقت أكثر من 59 مليون رسالة وأرسلت حوالى 61 مليون رسالة، كما قام مندوبو اللجنة الدولية بإجراء 11170 زيارة لمعسكرات الأسرى، وبرغم صعوبة الانتقال أثناء الحرب العالمية الثانية، قامت اللجنة الدولية بنقل 470000 طن من مواد الإغاثة إلى أسرى الحرب والمحتجزين المدنيين.

واتسع نشاط اللجنة الدولية خلال الحرب العالمية الثانية – نتيجة لتطور متطلبات العمل الإنساني – ليشمل مساعدة المدنيين المضارين من العمليات العسكرية، رغم عدم وجود أي اتفاقية دولية – في ذلك الوقت – تضمن مساعدة المدنيين. فنتيجة للعمليات العسكرية الواسعة والقصف المكثف تعرض ملايين المدنيين للمجاعات والأوبئة، ولمواجهة هذه الكوارث، أسست اللجنة الدولية بالاشتراك مع الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر ورابطة الجمعيات الوطنية للصليب الأحمر “اللجنة المشتركة للإغاثة” التي قامت بتوفير مواد إغاثة قيمتها حوالي 500 مليون فرنك سويسري قامت اللجنة الدولية بتوزيعها على المدنيين المضارين من الأعمال الحربية.

5- أنشطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعد الحرب العالمية الثانية:

واصلت اللجنة الدولية مساعدة ضحايا النزاعات التي اندلعت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في كافة أنحاء العالم كالحرب الأهلية في اليونان والنزاع الهندي الباكستاني، والنزاع العربي الإسرائيلي، حيث قامت بدورها التقليدي في تقديم المساعدات وتنسيق الإغاثة وزيارة الأسرى.

وعلى ضوء الدروس المستفادة من الحرب العالمية الثانية تم تطوير اتفاقيات جنيف لتواكب ما استجد من تطورات وتم اعتماد اتفاقيات جنيف لعام 1949، وتلا ذلك تطوير أحكام القانون الدولي الإنساني المتعلقة بسلوك المحاربين وحماية المدنيين فتم اعتماد البروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف في عام 1977.

وقد منحت اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولان الإضافيان للجنة الدولية العديد من الوظائف الجديدة، وسنتناول أنشطة اللجنة الدولية في التاريخ المعاصر على ضوء هذه الاتفاقيات  عند الحديث في الفصل الثاني من الباب الأول عن دور اللجنة الدولية في النزاعات.

الحرب العالمية الأولى

المطلب الثاني: الهيكل التنظيمي للجنة الدولية للصليب الأحمر

بطبيعة الحال، كما شهدت اللجنة الدولية تطوراً في أنشطتها، فقد شهدت كذلك تطوراً في هيكلها التنظيمي ومع الوقت تكونت ثلاثة مستويات من اتخاذ القرار داخل اللجنة، هي وفقاً للنظام الأساسي للجنة الدولية للصليب الأحمر، الجمعية العامة، ومجلس الجمعية، ومجلس الإدارة، وسوف نتناول كل منهم بشيء من التفصيل فيما يلي:

(أ) الجمعية العامة للجنة الدولية للصليب الأحمر

الجمعية العامة للجنة الدولية هي الهيئة الرئاسية العليا للجنة الدولية للصليب الأحمر. وهي تشرف على كافة أنشطة اللجنة، وتقوم بصياغة السياسات، وتحديد الأهداف العامة واستراتيجية المؤسسة، والموافقة على الميزانية والحسابات. وقد تفوض مجلس الجمعية في القيام ببعض من مسؤولياتها. وتتكون الجمعية من أعضاء اللجنة الدولية ورئيسها، ونائبا الرئيس هم في الوقت نفسه رئيس اللجنة ونائبا رئيس اللجنة.

وينتخب أعضاء اللجنة الدولية زملاءهم الجدد من بين المواطنين السويسريين، ولا يجوز أن يقل عدد الأعضاء عن خمسة عشر ولا أن يزيد على خمسة وعشرين. ويعاد انتخاب أعضاء اللجنة كل أربع سنوات بأغلبية ثلثي أصوات أعضاء اللجنة ، وبعد قضاء العضو ثلاث فترات، مدة كل منها أربع سنوات، لابد أن يحصل على أصوات ثلاثة أرباع مجموع أعضاء اللجنة على الأقل حتى يمكنه الاستمرار لفترة أو فترات إضافية أخرى.

ويحافظ شرط الجنسية السويسرية لأعضاء الجمعية العامة على حياد اللجنة الدولية عند تقديم المساعدة والحماية لضحايا النزاعات المسلحة، ذلك الحياد المعترف به دولياً للاتحاد السويسري. كما تحافظ طريقة انتخاب أعضاء الجمعية العامة للجنة الدولية على استقلالها فاللجنة تختار أعضاءها بنفسها، وبالتالي لا تكون مسئولة أمام أي جهة أخرى ولا تخضع لأي تأثير خارجي.

(ب) مجلس الجمعية

وهو جهاز فرعي للجمعية العامة، تكلفه الأخيرة ببعض من سلطاتها. ويقوم هذا المجلس بإعداد أنشطة الجمعية العامة ويتخذ القرارات بشأن الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بالسياسة العامة للتمويل، والموظفين والاتصال، وهو يعمل كحلقة اتصال بين مجلس الإدارة والجمعية، التي يقدم إليها تقريراً عن العمل بصورة منتظمة. ويتكون من خمسة أعضاء منتخبين من قبل الجمعية، ويترأسه رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

(ج) مجلس الإدارة

وهو الجهاز التنفيذي للجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو مسؤول عن تطبيق وضمان تطبيق الأهداف العامة واستراتيجيات المؤسسة المحددة من قبل الجمعية أو مجلس الجمعية. ومجلس الإدارة مسؤول كذلك عن تيسير إدارة اللجنة الدولية للصليب الأحمر وعن كفاءة موظفيها ككل. ويتكون من المدير العام وأربعة مديرين تعينهم جميعاً الجمعية.

المطلب الثالث: موارد اللجنة الدولية للصليب الأحمر

 تعتمد اللجنة الدولية للصليب الأحمر على أعداد كبيرة من الموظفين وعلى ميزانية ضخمة حتى تستطيع القيام بالأعمال الموكلة إليها، وسنتناول فيما يلي مواردها البشرية والمالية.

(أ) الموارد البشرية:

تعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمقرها الرئيسي وبعثاتها الميدانية الثمانين المنتشرة حول العالم واحدة من كبرى المنظمات الإنسانية العاملة في مناطق العنف والنزاعات المسلحة التي تقدم العديد من الخدمات – على النحو الذي سنستعرضه في الفصل الثاني من الباب الأول لاحقاً – الخاصة بحماية ومساعدة ضحايا النزاعات المسلحة، وتعتمد اللجنة الدولية على عدد كبير من الموظفين العاملين في مجالات متعددة مثل الطب، والتمريض، والهندسة، والبناء، والقانون.

وتعتمد اللجنة الدولية في أداء مهامها بصفة أساسية على الموظفين المحليين المتواجدين بمختلف بعثاتـها حـول العـالم والذيـن يتمتعون بالمعرفـة والمـهارات المكتسبة من البيئة المحلية التي تجري في إطارها عمليات اللجنة الدولية، ويشكل هؤلاء الموظفون المحليون أكثر من 80 في المائة من عدد موظفي اللجنة.

وتستعين اللجنة بموظفين أجانب من الدولة التي يعملون بها، عندما يتطلب الأمر أطرافاً خارجية لا تنخرط بصفة شخصية في النزاع وقادرة على القيام بأنشطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر دون التعرض للمصاعب أو المخاطر التي قد تواجه الموظفين المحليين.

ويشكل المندوبون الذين يعملون في مهام متعلقة بزيارة الأشخاص المحرومين من حريتهم وتنظيم وتنفيذ برامج المساعدات ونشر الوعي حوالي نصف عدد الموظفين الأجانب. وتتولى اللجنة الدولية للصليب الأحمر تدريب وإعداد من يقبل من المتقدمين لشغل وظيفة مندوب ممن تتراوح أعمارهم بين 25 و35 سنة من الجامعيين المستعدين للسفر ويجيدون اللغتين الإنجليزية والفرنسية ويتمتعون بالاستقلالية والقدرة على العمل بروح الفريق، ويجب أن يكونوا مستعدين للعمل في ظروف شاقة يمكن أن تعرض حياتهم للخطر.

ويتخصص الجانب الآخر من الموظفين الأجانب في المجالات الفنية كالطب والهندسة والزراعة ويتولون مهام لصالح اللجنة الدولية تتراوح مدتها عادةً بين 6 أشهر و12 شهراً، وبصفة عامة يجب أن تتوافر لدى هؤلاء المتخصصين خبرة عملية مدتها ثلاث سنوات على الأقل عند بدء العمل، وتكون معايير توظيفهم أكثر مرونة مقارنةً بالمندوبين من حيث السن والمهارات اللغوية.

وينقسم الموظفون ما بين عاملين في الميدان وعاملين في المقر الرئيسي للجنة بمدينة جنيف السويسرية، وفي الميدان يباشر الموظفون عملهم من خلال بعثة اللجنة الدولية التي يختلف حجمها وعدد العاملين بها وفقاً للاحتياجات الميدانية ومدى اتساع النزاع والأنشطة المطلوبة، ولكل بعثة رئيس يتولى تنسيق الأنشطة والاتصالات داخل الدولة، ويكون على اتصال دائم بالمقر الرئيسي في جنيف وبالبعثات الفرعية داخل الدولة إن وجدت. ويتولى العاملون بالمقر الرئيسي تقديم الدعم للأنشطة التي تجري في الميدان وتقديم الخبرات في مجالات عديدة، ويؤمِّن المقر الرئيسي الدعم السياسي المطلوب من المجتمع الدولي لعمل اللجنة الدولية، ويعمل مئات الموظفين في المقر الرئيسي وهم يتمتعون بخبرة وتفهم لحالات النزاع وأنشطة اللجنة الدولية، ويتمتعون بخبرة لا تقل عن ثلاث سنوات في العمل الميداني وتولوا مسئوليات رئيسية أو لديهم مهارات خاصة.

ويبين الجدول التالي توزيع الموارد البشرية للجنة الدولية للصليب الأحمر خلال عام 2009.

الموارد البشرية للجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 2009:

12184  إجمالي عدد الموظفين  
1453  الموظفون الأجانب بالميدان (80 بعثة)  
9908  الموظفون المحليون بالميدان  
823  الموظفون العاملون بالمقر الرئيسي  
اكثر من 100  عدد الجنسيات التي يتمتع بها الموظفون  
(لا تشمل هذه الأرقام العمالة اليومية)

(ب) الموارد المالية:

تعتمد اللجنة الدولية في تمويلها على التبرعات، فحسب النظام الأساسي للجنة تكون الأصول الأساسية للجنة الدولية من مساهمات الحكومات والجمعيات الوطنية ومن التمويل من المصادر الخاصة كحصيلة بيع بعض المؤلفات وعائداتها من الأوراق المالية.

تلقت اللجنة الدولية في عام 2007 مساهمات في ميزانيتها قدرها 1000 مليون فرنك سويسري، بلغت نسبة مساهمة الحكومات 80.1%، والجمعيات الوطنية ساهمت بنسبة تبلغ 5.9%، وساهم الاتحاد الأوروبي بنسبة بلغت 11.1% وباقي الميزانية جاءت من العديد من المصادر الخاصة والعامة مثل الروتاري العالمي، والاتحاد الأوروبي لجمعيات كرة القدم، وأنفقت منها اللجنة الدولية 154.9 مليون فرنك سويسري على أنشطة المقر، و840.2 مليون فرنك سويسري على العمل الميداني. بينما تلقت اللجنة الدولية في عام 2008 مساهمات في ميزانيتها قدرها 959.6 مليون فرنك سويسري، بلغت نسبة مساهمة الحكومات 72.6%، والجمعيات الوطنية ساهمت بنسبة تبلغ 13%، وساهم الاتحاد الأوروبي بنسبة بلغت 9.4% وباقي الميزانية جاء من المصادر الأخرى الخاصة والعامة، وأنفقت منها اللجنة الدولية 147.6 مليون فرنك سويسري على أنشطة المقر، و811.1 مليون فرنك سويسري على العمل الميداني، وفي عام 2009 حوالي مليار فرنك سويسري أنفقت اللجنة الدولية 174.2 مليون فرنك على أنشطة المقر، و942.9 مليون فرنك سويسري على العمل الميداني.

وفي نهاية كل عام تصدر اللجنة الدولية نداءين تمويليين، الأول لتغطية نفقات المقر، والثاني لتغطية تكاليف العمل الميداني في العام التالي. وإذا طرأت ظروف استثنائية كاندلاع نزاع مسلح جديد فلا تضطر اللجنة الدولية لانتظار تلقي التمويل اللازم حتى تمارس مهامها في الحالات الطارئة وإنما تمارس عملها فوراً وتعتمد على النوايا الطيبة للمساهمين في توفير التمويل اللازم بأقصى سرعة ممكنة.

ويبين الجدولان التاليان المساهمات التي تلقتها اللجنة الدولية خلال الخمس سنوات الأخيرة:

1- المساهمات في نفقات المقر (بالمليون فرنك سويسري):

عام 2009 عام 2008 عام 2007 عام 2006 عام 2005 المساهم 
754.6 782.2 673.4 634 575.6 الحكومات 
117.4 129.1 111.3 84.9 90.1 الاتحاد الأوروبي 
29.7 46.3 52.4 75.3 89.3 الجمعيات الوطنية 
3.3 4.2 2.5 0.8 0.2 المنظمات الدولية 
25 35.3 23.7 24 45.4 مصادر أخرى عامة وخاصة 

2- المساهمات في نفقات العمل الميداني (بالمليون فرنك سويسري):

عام  2009  عام  2008  عام  2007  عام  2006  عام  2005المساهم  
754.6  782.2  673.4  634  575.6  الحكومات  
117.4  129.1  111.3  84.9  90.1  الاتحاد الأوروبي  
29.7  46.3  52.4  75.3  89.3  الجمعيات الوطنية  
3.3  4.2  2.5  0.8  0.2  المنظمات الدولية  
25  35.3  23.7  24  45.4  مصادر أخرى عامة وخاصة  

وتكون جميع التبرعات طوعية فلا تقبل اللجنة الدولية المساهمات المشروطة وتأخذ هذه المساهمات أشكالاً ثلاثة، فإما أن تكون نقدية، أو عينية، أي في شكل سلع مثل الأغذية أو مواد غير غذائية كالشاحنات والخيام، وكذلك قد تأخذ المساهمة شكل خدمات مثل تقديم موظفين متخصصين.

ويتوقف التمويل على استعداد المجتمع الدولي لتلبية الاحتياجات المالية للجنة الدولية التي تبذل كل ما في وسعها لتوسيع قاعدة الممولين المواظبين، وفي بعض الأحيان تطلب الدول – نتيجة لصعوبات تتصل بالميزانية أو الرقابة الداخلية لديها – تخصيص التبرعات المقدمة للجنة الدولية لأغراض بعينها، وتقبل اللجنة ذلك إذا لم يضر بتوازن عملياتها وباستقلالها. فإذا لم يتحقق هذا الشرط تقوم اللجنة الدولية بإعادة بحث تخصيص التبرع مع الدولة المانحة، وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مقبول – وهو أمر نادر الحدوث – ترفض اللجنة الدولية قبول التبرع وعند الرفض فإن اللجنة لا تنشر أسباب ذلك حفاظاً على مبدأ السرية في التعاملات مع الدول.

وتقوم اللجنة الدولية خلال كل عام بإصدار العديد من التقارير بالإضافة إلى التقرير السنوي لإعلام الجهات المتبرعة بكيفية قيام اللجنة الدولية بالإنفاق على أنشطة وتكاليف كل نشاط.

ويبين الجدول التالي أكبر عشر عمليات للجنة الدولية للصليب الأحمر من حيث النفقات بالمليون فرنك سويسري خلال الأعوام الأربعة الأخيرة.

عام 2006  عام 2007  عام 2008  عام 2009  
1  السودان  122  السودان  94  السودان  109.9  العراق  58.7  
2  باكستان  52.5  العراق  76.5  الصومال  102.3  السودان  77.4  
3  إسرائيل والأراضي المحتلة  49.5  إسرائيل والأراضي المحتلة  61.4  العراق  95.5  باكستان  76.8  
4  الصومال  49.1  أفغانستان  49.8  أفغانستان  69.8  أفغانستان  75.3  
5  لبنان  48.1  الصومال  49.2  إسرائيل والأراضي المحتلة  62.1  إسرائيل والأراضي المحتلة  64.7  
6  العراق  42,3  الكونغو  32.6  الكونغو  49.8  الكونغو  60.6  
7  أفغانستان  42.3  كولومبيا  30.6  كولومبيا  37.6  الصومال  48.8  
8  الكونغو  40.8  سيريلانكا  30.2  سيريلانكا  30.1  كولومبيا  34.6  
9  بعثة موسكو الإقليمية  30.1  تشاد  24.6  تشاد  26.6  سيريلانكا  30.9  
10  سيريلانكا  26.1  أوغندا  22.6  باكستان  24.9  تشاد  27.8  
Menu