عند الحديث عن آليات احترام حقوق الضحايا في القانون الدولي الإنساني يجب أن نميز بين طائفتين من النزاعات المسلحة، الأولى هي النزاعات المسلحة الدولية، والثانية هي النزاعات المسلحة غير الدولية، ونلاحظ أن جملة القواعد التي تتضمن آليات لكفالة احترام القانون الدولي الإنساني قد جاءت في مجملها متعلقة بالنزاعات المسلحة الدولية، أما النزاعات المسلحة غير الدولية فينطبق بشأنها المبادئ التي تضمنتها المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977.

ولقد نتج عن هذا التمييز بين القوانين المطبقة على النزاعات المسلحة الدولية وعلى النزاعات المسلحة غير الدولية أن تلك الأخيرة عانت لفترات طويلة من ضعف الآليات المقررة في هذا القانون الدولي لكفالة حماية ضحايا هذه النزاعات، وهي ما حاول المجتمع الدولي أن يتلافاه من خلال الاعتراف لأول مرة في اتفاقية متعددة الأطراف هي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تم تبنيه عام 1998 (نظام روما ) في الفقرة الثانية من المادة الثامنة المخصصة لتعريف جرائم الحرب بقائمة من الجرائم تُرتكب في زمن النزاعات المسلحة غير الدولية. كما أن أحد الأهداف التي تم من أجلها إعداد الدراسة الخاصة بالقواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني هو محاولة سد هذا الفراغ في القواعد التي تحكم النزاعات المسلحة غير الدولية بالمقارنة بالنزاعات المسلحة الدولية.

وفيما يلى نستعرض النقاط التالية والتي تنصرف إلى حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية في مجملها ، عدا الخامسة والتي نخصصها للنزاعات المسلحة غير الدولية

  1. الالتزام العام باحترام وفرض احترام القانون الدولي الإنساني
  2. الآليات الوقائية لتطبيق القانون الدولي الإنساني.
  3. الآليات الرقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني.
  4. الآليات العقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني.
  5. آليـات احـترام القـانـون الدولـي الإنساني فـي النزاعات المسلحة غير الدولية.

أولا : الالتزام العام باحترام وفرض احترام القانون الدولي الإنساني

أوردت المادة الأولى المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكول الإضافي الأول ما يلي: “تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال”.

ووفقاً لمبدأ أن العقد شريعة المتعاقدين فإن هذه المادة الأولى المشتركة تفرض التزاماً تعاقدياً على جميع الدول الأطراف بأن تحترم القانون الدولي الإنساني على أراضيها وأن تتخذ الإجراءات اللازمة في مواجهة أي طرف سامٍ متعاقد آخر لا يحترم هذا القانون. ولما كانت معظم دول العالم أطرافاً في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وهناك تزايد مطرد في عدد الدول الأطراف في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، وقد أكدت محكمة العدل الدولية بأن على جميع الدول الأطراف في نزاع مسلح أو على الدول الأطراف الأخرى غير المنخرطة في نزاع مسلح مسئولية احترام وكفالة احترام أحكام القانون الدولي الإنساني، في قضية نيكاراجوا ضد الولايات المتحدة الأمريكية عام 1986. ومن ثم فإن المادة الأولى المشتركة تفرض على الأطراف هذا الالتزام وتعطي لكل الدول الحق في أن تضمن احترام أي دولة أخرى للقانون الدولي الإنساني.

ثانياً : الآليات الوقائية لتطبيق القانون الدولي الإنساني

أولت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 أهمية خاصة للحيلولة دون وقوع انتهاكات جسيمة لأحكامها، وفي هذا الإطار نستطيع أن نصنف مجموعة من هذه الآليات لها دور وقائي توصف بأنها آليات وقائية تتلخص في ثلاث آليات:

  • الالتزام بنشر أحكام القانون الدولي الإنساني والتعريف به.
  • إعداد عاملين مؤهلين بهدف تسهيل تطبيق القانون الدولي الإنساني.
  • تعيين مستشارين قانونيين في القوات المسلحة.

وسوف نعرض فيما يلي لكل آلية من هذه الآليات بالتفصيل الملائم.

أ ـالالتزام بنشر أحكام القانون الدولي الإنساني والتعريف به:

إن هذا الالتزام بالنشر على النطاق العام التزام أساسي على كل الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول. والنشر يفرض على الأطراف المتعاقدة أن يكون مقاتلوها مدربين على العمل بما يتفق وأحكام هذا القانون، وهذا الالتزام لا يقتصر على النشر في أوساط العسكريين فقط وإنما ينصرف أيضاً إلى المدنيين. وكذلك فإن هذا الالتزام يشمل أداء مهمة النشر ليس في وقت النزاع المسلح فحسب وإنما في وقت السلم أيضا، فلا بد أن يبدأ منذ وقت السلم نشر القانون والتدريب عليه، بما يتيح تحقيق هذا الالتزام بصورة كاملة.

وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكثر من مناسبة ضرورة نهوض الدول بالتزاماتها بنشر القانون الدولي الإنساني في زمن النزاعات المسلحة.

وقد أبرزت المؤتمرات الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر مراراً أهمية نشر القانون الدولي الإنساني، وطالبت الدول بتنفيذ التزاماتها في هذا المجال

ب ـإعداد عاملين مؤهلين لتسهيل تطبيق القانون الدولي الإنساني:

ورد النص في البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 في الفقرة الأولى من المادة (6) على دعوة الأطراف السامية المتعاقدة إلى أن تسعى في زمن السلم أيضاً لإعداد عاملين مؤهلين بغية تسهيل تطبيق الاتفاقيات وهذا اللحق (البروتوكول) وخاصةً فيما يتعلق بنشاط الدول الحامية. ووفقاً للأعمال التحضيرية للبروتوكول الإضافي الأول فإن التركيز في النص على إعداد العاملين المؤهلين مقصود به تحقيق اعتبارين هامين:

الأول :  مساعدة الدول الحامية على أداء واجباتها.

الثاني : الاستفادة منهم على الصعيد الوطني لدولهم بتقديم النصيحة أو المشورة

والمعرفة إلى السلطات المعنية مباشرةً والتي تشارك مشاركة فعالة في أنشطة النشر وتطبيق القانون

الدولي الإنساني.

ونفاذاً لحكم المادة (6) من البروتوكول الإضافي الأول سالفة الذكر تقوم الأطراف المتعاقدة التي تعد عاملين مؤهلين تنفيذاً لهذا النص بإرسال قوائم بأسمائهم إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تضعها تحت تصرف الأطراف المتعاقدة، الأمر الذي يسمح بالاستعانة بخدماتهم على نطاق واسع ليس فقط من جانب سلطات دولهم بل ومن جانب أطراف متعاقدة أخرى

ج ـ تعيين مستشارين قانونيين للقوات المسلحة:

ورد النص لأول مرة على نطاق المستشارين القانونيين في المادة 82 من البروتوكول الإضافي الأول التي تقضي بما يلي:

“تعمل الأطراف السامية المتعاقدة دوماً، ويعمل أطراف النزاع أثناء النزاع المسلح على تأمين توفر المستشارين القانونيين، عند الاقتضاء، لتقديم المشورة للقادة العسكريين على المستوى المناسب، بشأن تطبيق الاتفاقيات وهذا البروتوكول، وبشأن التعليمات المناسبة التي تعطى للقوات المسلحة فيما يتعلق بهذا الموضوع”.

وإذا ما طالعنا ألفاظ هذا النص نجد أنه خفف من الإلزام بدرجة كبيرة، وأكتفي بالإشارة إلى مجرد العمل على تأمين توفر هؤلاء المستشارين القانونيين عند الاقتضاء.

إلا أنه باستقراء موقف الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الإضافيين لصياغة القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني، نجد أن الدول قد أقرت بهذه الآلية باعتبارها تمثل عرفاً دولياً، وبالتالي فهي ملزمة للدول ولو لم تصادق على هذا البروتوكول، ونذكر على سبيل المثال موقف الولايات المتحدة الأمريكية في الأخذ بنظام المستشارين القانونيين على الرغم من أنها لم تصادق بعد على البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.

الآليات الرقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني

ثالثاً: الآليات الرقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني

هذا المبحث يتعلق بآليات الإشراف والمراقبة، فهو مكمل للالتزام العام الذي سبق ذكره من خلال مجموعة من آليات التنفيذ التي أوردتها اتفاقيات جنيف للرقابة على تطبيق قواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني وهي آلية الدول الحامية ثم آلية التحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني وصولاً إلى آلية اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التي وردت ضمن أحكام البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، وفيما يلي نتناول كل آلية من هذه الآليات بالتفصيل المناسب.

أ ـالدول الحامية:

إن نشأة نظام الدول الحامية التي يعهد إليها باختصاصات رقابية في مجال القانون الدولي الإنساني بدأ مع اتفاقية جنيف الثانية لعام 1929 بشأن معاملة أسرى الحرب. وكانت المادة 86 من هذه الاتفاقية تلزم الأطراف السامية المتعاقدة بالاعتراف بأن الدول الحامية هي المسؤولة عن حماية مصالح أطراف النزاع عند تطبيق أحكام هذه الاتفاقية. ولم تقف اتفاقية 1929 عند هذا الحد، وإنما أوردت نص المادة 87 الذي يشير إلى اختصاص الدول الحامية ببذل المساعي الحميدة في حالة الخلاف بين أطراف النزاع على تطبيق أحكام الاتفاقية. وعهدت المادة 87 للدول الحامية حق الدعوة إلى عقد اجتماعات بين أطراف النزاع من أجل حل الخلاف بينهم، وألزم هذا النص الأطراف المتحاربة بتنفيذ المقترحات التي ترسلها إليها الدول الحامية في هذا الشأن.

وقد جاءت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 لتخول الدول الحامية سلطات أوسع في هذا الشأن، إذ جاءت العبارة الأولى من المواد المشتركة  أرقام (8، 8،8، 9) من الاتفاقية الرابعة على أن تطبق هذه الاتفاقيات بمعاونة وتحت إشراف الدول الحامية التي تكلف برعاية مصالح أطراف النزاع وطلباً لهذه الغاية يجوز للدول الحامية أن تعين بخلاف موظفيها الدبلوماسيين أو القنصليين مندوبين من رعاياها أو رعايا دول أخرى محايدة، ويخضع تعيين هؤلاء المندوبين لموافقة الدول التي سيؤدون واجباتهم لديها.

هنا نجد أن مضمون نص المادة 86 التي كانت قد وردت ضمن اتفاقيات 1929 قد ورد إجمالاً في هذه المادة المشتركة ولكن بإضافة جديدة وهي وظيفة “الإشراف”، إذ أن “الإشراف” لم يكن منصوصاً عليه ضمن اتفاقية 1929. كما أن هناك إضافة أخرى تأتي في عبارة “تطبق هذه الاتفاقيات بمعاونة” حيث إن نص المادة 86 لم يكن قد نص على أن تطبق هذه الاتفاقيات بمعاونة الدول الحامية. ورغم ذلك فقد كان هذا النص له أثر كبير كأساس قانوني لقيام كل من سويسر أو السويد بممارسة دور الدولة الحامية أثناء الحرب العالمية الثانية

ب ـ آلية التحقيق:

عرف القانون الدولي الإنساني عام 1929 ولأول مرة آلية التحقيق، عندما ورد النص عليها في الإتفاقية الأولى لعام 1929 الخاصة بتحسين أحوال الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان. وكما وردت في هذه الإتفاقية في نص المادة 30 فإن إجراء التحقيق يتوقف على طلب من أحد الأطراف المتعاقدة ولكنه يستلزم موافقة باقي أطراف النزاع، وأضافت المادة 30 أنه فور رصد لجنة التحقيق لهذه الانتهاكات على الأطراف وقف هذه الانتهاكات وقمعها فوراً. وقد تيقنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من صعوبة تطبيق هذا النص إذ إنه في ظل ظروف النزاع المسلح يتعذر الحصول على موافقة الأطراف على قيام آلية التحقيق، ويكفي دليلاً على ذلك أنه منذ إبرام هذا النص في عام 1929 كان هناك محاولة واحدة لإعمال هذه الآلية في النزاع الإيطالي الإثيوبي عام 1935-1936 ولكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح. ولذلك عمدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى عقد جلسات عمل لمجموعة من الخبراء في مجال القانون الدولي الإنساني لبحث كيفية تفعيل هذه الآلية. وكان مقترح اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تكون هناك آلية دائمة تعمل فور وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني للتحقيق في هذه الانتهاكات وقمعها . إلا أن اجتماعات الخبراء لم تعتمد هذا الرأي. وإثر قيام الحرب العالمية الثانية وتأثر الضمير العالمي بما لحق بالمدنيين والعسكريين على حدٍ سواء من انتهاكات أثناء هذا النزاع، قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1948 بإحالة هذا المقترح إلى المؤتمر الدولي السابع عشر للصليب الأحمر في اجتماعه المنعقد بمدينة ستوكهولم ضمنته آلية دولية للتحقيق فور وقوع الانتهاكات.

ومع ذلك لم يلق مقترح اللجنة الدولية للصليب الأحمر ترحيباً من المشاركين في المؤتمر الدولي السابع عشر في ستوكهولم وأيضاً عندما بدأت المؤتمرات الدبلوماسية للتحضير لاتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 مالت أغلب الدول إلى الإبقاء على نص المادة 30 من اتفاقية 1929 كآلية للتحقيق.

أوردت اتفاقيات جنيف الأربع المواد المشتركة أرقام (52، 53، 132، 149) والتي تنص على قيام آلية التحقيق عند وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وبالنظر إلى هذه الآلية كما وضعت في اتفاقيات جنيف لسنة 1949 نجد أنها تستلزم طلباً من أحد الأطراف في النزاع بإعمال تحقيق في انتهاك للقانون الدولي الإنساني، كما كان الحال في نص المادة 30 من اتفاقية 1929. إلا أن اتفاقيات جنيف 1949 قدمت إضافة جديدة وهو أنه في حالة تعذر التوصل إلى اتفاق على آلية التحقيق الواردة في اتفاقيات جنيف الأربع فعلى الأطراف تعيين محكم يسعى إلى الوصول إلى اتفاق بشأن إجراءات التحقيق.

ولم تشهد هذه المادة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع حتى الآن أي حالة من حالات التطبيق بل يمكنا القول بأنها قد زادت من صعوبة الاتفاق، فإذا كانت هناك استحالة لقيام آلية التحقيق وفقاً لشرط موافقة أطراف النزاع في نص المادة 30 من اتفاقية 1929 فإن الأمور ازدادت تعقيداً في ظل اتفاقيات جنيف الأربع إذ إنه ظلت هذه المادة تستلزم موافقة أطراف النزاع على قيام آلية التحقيق، فإذا لم يتوصلوا إلى اتفاق فعليهم أن يتفقوا على محكم ليضع حداً لهذا الخلاف، فأبقت الأمر متوقفاً على إرادة الأطراف سواء في الاتفاق على قيام آلية التحقيق أو الاتفاق على تعيين محكم لتسهيل قيام آلية التحقيق، وهو ما لم يتحقق في تاريخ تطبيق هذه المادة المشتركة حتى اليوم.

ج ـ اللجنة الدولية لتقصي الحقائق:

ورد النص على قيام هذه الآلية في المادة 90 من البروتوكول (اللحق) الإضافي الأول والتي نصت على تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق.

تختص اللجنة الدولية لتقصي الحقائق المنصوص عليها في المادة 90 سالفة الذكر بالتحقيق في الانتهاكات الجسيمة التي ترتبط بالنزاعات المسلحة الدولية فقط ولا مجال لاختصاصها في النزاعات المسلحة غير الدولية. فضلاً عن ذلك فإن البند “ج” من الفقرة الثانية قد حدد اختصاصات اللجنة بالتحقيق في الوقائع المتعلقة بأي ادعاء خاص بانتهاك جسيم، والعمل على إعادة احترام أحكام الاتفاقيات وهذا البروتوكول الإضافي الأول الخاص بالنزاعات المسلحة الدولية من خلال المساعي الحميدة.

إذن هذه اللجنة ينصرف اختصاصها إلى أمرين، الأمر الأول هو التحقيق في الانتهاكات، وإذا ما خلصت إلى وجود هذه الانتهاكات فإنها تصدر توصيات لأطراف النزاع لرفع هذه الانتهاكات. وفضلاً عن ذلك فإنه ليس هناك إلزام على اللجنة بنشر تقرير بالنتائج التي توصلت إليها، ولا يجوز لها أن تنشر هذا التقرير علناً إلا إذا طلب منها ذلك جميع أطراف النزاع. فضلاً عن ذلك فإن الإجراءات وطبيعة التحقيق المنوطة باللجنة الدولية لتقصي الحقائق تجعل منها لجنة قضائية في إجراءاتها وصولاً إلى التحقيق في هذا الانتهاك، وإضافة اختصاص بذل المساعي الحميدة بين أطراف النزاع كما جاء في البند “ج” من الفقرة الثانية يجعل هناك نوعاً من الخلط بين الاختصاصات القضائية لهذه اللجنة والاختصاصات الدبلوماسية من خلال بذل المساعي الحميدة.

وفي الختام فإن هذه اللجنة التي كان من المأمول أن تضطلع بدور فعال في إطار الرقابة على تطبيق أحكام اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول لعام1977 قيدت بإرادة الأطراف، إذ إن الاختصاص ابتداءً يكون بإصدار إعلان مستقل بقبول الاختصاص أو بموافقة خاصة إذا لم تكن من ضمن الدول التي أصدرت هذا الإعلان، فإذا ما نظرنا إلى طبيعة القرارات والتوصيات التي تصدر عنها فإنها أيضاً غير ملزمة لأطراف هذا النزاع، الأمر الذي يجسد حقيقة هامة أن الدول الأطراف في اتفاقيات القانون الدولي الإنساني كلما تعلق الأمر بسلطة رقابية عليها في أثناء سير العمليات القتالية للرصد والتحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني فإنها تحاول دائماً أن تحتج بمبدأ سيادة الدولة وأن تجعل إعمال هذه الآليات رهن موافقتها وشرط موافقة أطراف النزاع يعطل هذه الآليات. حتى أن هذه اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التي دخلت حيز النفاذ بالفعل باستكمال عدد أطرافها 20 دولة منذ عام 1993 وبلغت اليوم 77 دولة ، لم تباشر التحقيق في أي واقعة حتى الآن بعد مرور نحو 17 عاماً على إنشاءها.

خلاصة القول أن الآليات الرقابية التي عرضنا إليها  فيما تقدم والتي تدرجت من الدول الحامية التي تطبق هذه الاتفاقيات تحت إشرافها وبمراقبتها، مروراً بآليات التحقيق في انتهاكات القانون الدولي الإنساني الواردة في اتفاقيات جنيف الأربع، ثم اللجنة الدولية لتقصي الحقائق المستحدثة بموجب البروتوكول (اللحق) الإضافي الأول لعام 1977 لم يكتب لها النجاح في مجمل أعمالها لأن الدول عندما نصت على إنشائها كآليات للرقابة قيدتها دائماً بشرط يستلزم بموجبه موافقة الدول على إعمال هذه الآليات، الأمر الذي نال كثيراً من هذه الآليات الرقابية، فهل ينطبق ذات الأمر على الآليات العقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني؟ هذا ما سنراه عند الحديث عن الآليات العقابية في المبحث التالي.

رابعاً: الآليات العقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني

الحديث عن الآليات العقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني يتناول جوانب عديدة  سواء على مستوى القضاء الوطني أو مستوى القضاء الدولي نحو قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني. ومجال البحث في هذا المطلب لا يتسع ليشمل هذه الآليات القضائية بالتفصيل، وعليه سوف نعرض بإيجاز الآليات العقابية كأحد العناصر المبينة في هذا الفصل ضمن آليات احترام القانون الدولي الإنساني.

والآليات العقابية مناط البحث هي ما ورد من أحكام داخل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 والخاص بالنزاعات المسلحة الدولية، والتي تنصرف أساساً إلى مفهوم القضاء الوطني.

كرست اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول (اللحق) الإضافي الأول لعام 1977 جانباً كبيراً من أحكامها لقمع الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني في زمن النزاعات المسلحة الدولية، مؤكدة بذلك على أهمية الجزاء كعنصر هام لأي قاعدة قانونية للإلزام بأحكامها ولردع من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم.

أوردت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 بعد حصر قائمة بالأفعال التي تعد جرائم حرب. ومن خلال استقراء الأحكام الواردة بها يمكن حصر أهم ملامح هذه المنظومة من خلال استعراض الأحكام التي أوردتها المادة المشتركة السابقة على تعريف جرائم الحرب وكذلك المادة المشتركة التالية لها.

جاء نص المادة المشتركة 49، 50، 129، 146 من الاتفاقيات الأربع لعام 1949، وهي ذات الأحكام المطبقة على البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 بموجب الفقرة الأولى من المادة 85 على ما يلي:

“تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية، المبينة في المادة التالية.

يلتزم كل طرف متعاقد بملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة أو بالأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى المحاكمة، أياً كانت جنسيتهم، وله أيضاً، إذا فضل ذلك، وطبقاً لأحكام تشريعه، أن يسلمهم إلى طرف متعاقد معني آخـر لمحـاكمتهـم مادامـت تتـوفـر لـدى الطـرف المـذكـور أدلـة اتهـام كافيـة ضـد هؤلاء الأشخاص.

وينتفع المتهمون في جميع الأحوال بضمانات للمحاكمة والدفاع الحر لا تقل ملاءمة عن الضمانات المنصوص عليها بالمادة 105 وما بعدها من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 بشأن معاملة أسرى الحرب”.

وبتحليل هذا النص نخلص إلى أهم الملاحظات التالية:

(أ) الالتزام باتخاذ الإجراءات التشريعية اللازمة لفرض عقوبات جنائية فعالة:

وفي إطار منطق قانوني سليم جاءت الفقرة الأولى من المادة المشتركة سالفة الذكر لتلبي مقتضيات مبدأ الشرعية الجنائية، إذ إنه بموجب النص صراحةً على تحديد قائمة بجرائم الحرب في إطار هذه الاتفاقيات بما يلبي مبدأ شرعية التجريم، فإن الاتفاقيات لم تورد عقوبات لهذه الجرائم، وإنما ألزمت بموجب هذه الفقرة الأولى كل مشرع وطني على صعيد دولته أن يلبي العنصر الخاص بشرعية العقوبة بإدراج عقوبات جنائية لهذه الأفعال. وبغير النص على عقوبات لهذه الجرائم تظل الاتفاقيات عاجزة عن التطبيق. ولذلك كان تنفيذ هذا الالتزام من الأولويات المرتبطة بموضوع تطبيق القانون الدولي الإنساني على الصعيد الوطني والذي نفرد له المبحث الثاني من الفصل الثاني من هذا الباب.

(ب) مبدأ المحاكمة أو التسليم:

تعد الفقرة الثانية من هذه المادة المشتركة جوهر المنظومة العقابية التي صاغتها اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول. فهي تتضمن مبدأين رئيسيين، الأول هو المحاكمة أو التسليم، والثاني هو مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي.

فالركيزة الأولى التي وضعتها هذه الفقرة هي إلزام الدول الأطراف المتعاقدة بملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب وتقديمهم للمحاكمة ووقف أي انتهاك لأحكام القانون الدولي الإنساني، وألزمت ابتداءً كل دولة طرف بالقيام بذلك الالتزام الواجب وتطبيقاً لمبدأ المحاكمة أو التسليم فإن الدولة الطرف المتعاقدة إن لم ترغب في محاكمة مجرم الحرب على أراضيها فإنها ملزمة بتسليمه لأي دولة طرف أخرى ترغب في محاكمته

كما أوردت هذه الفقرة مبدأً هاماً آخر وهو أن المحاكمة يجب أن تتم بغض النظر عن جنسية المتهم أو مكان ارتكاب الواقعة، وهو ما يسمى بمبدأ “الاختصاص الجنائي العالمي هذا المبدأ يقع على عاتق جميع الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف من أجل أن تكون هناك مسؤولية تضامنية بينها لإعمال عنصر الجزاء اللازم لقمع الانتهاكات الجسيمة

وعلى الرغم من أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 كانت من أول الصكوك الدولية التي تسعى إلى ترسيخ مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، إلا أنه بكل أسف فإنه لم يكتب له النجاح في مجال ملاحقة مجرمي الحرب على النحو المرجو منه. فأغلب الدول لم تجري التعديلات في التشريعات الداخلية بما يلزم لإنفاذه، كما أن الاعتبارات السياسية نالت من فاعلية هذا المبدأ، فتارة نجد دولاً عدلت عن تطبيقه وتارة أخرى نجد دولاً عديدة تعزف عن إدراجه ضمن منظومتها التشريعية.

ج) ضرورة توفير الضمانات القضائية الأساسية:

وفي الفقرة الأخيرة لهذه المادة المشتركة، ورد النص صراحةً على ضرورة توفير الضمانات القضائية الأساسية وحق الدفاع للمتهمين بارتكاب جرائم الحرب. وهنا تعكس هذه الفقرة حرص الاتفاقيات على إلزام الدول عند محاكمة مجرمي الحرب بتوفير كافة الضمانات القضائية لهم، حتى لا تكون هناك إعدامات أو عقوبات دون محاكمة عادلة وحتى يكون إنزال العقاب بهؤلاء المجرمين متفقاً وجميع المواثيق والصكوك الدولية ذات الصلة بالمحاكمات العادلة.

وكما ذكرنا فإن هذه الملاحظات الواردة في المادة المشتركة التي تسبق النص على جرائم الحرب، فإن المادة المشتركة اللاحقة للنص على جرائم الحرب وهي المواد المشتركة أرقام (51، 52، 131، 148) من الاتفاقيات الأربع يجري نصها على ما يلي:

“لا يجوز لأي طرف متعاقد أن يتحلل أو يحل طرفاً متعاقداً آخر من المسؤوليات التي تقع عليه أو على طرف متعاقد آخر فيما يتعلق بالمخالفات المشار إليها في المادة السابقة”.

والنص في هذه المادة صريح على عدم جواز التنازل عن الالتزام بالملاحقة القضائية ولا إبرام أي اتفاق ثنائي أو متعدد الأطراف لتعطيل هذا الالتزام. ومع صراحة النص يمكننا القول أن اتفاقيات جنيف واجبة النفاذ في مجال الملاحقة القضائية لمجرمي الحرب ولو اتفق أي من الأطراف المتعاقدة على غير ذلك.

تلك هي النصوص الخاصة بكيفية العقاب على جرائم الحرب التي صاغتها اتفاقيات جنيف والتي تكفل لكل طرف من الأطراف المتعاقدة أن يحترم هذه الاتفاقيات وأن تكفل احترام باقي الأطراف لها في ضوء ما ورد عليه النص من التزامات بموجب المادة الأولى المشتركة بين الاتفاقيات الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.

وكما يلاحظ على الأحكام الخاصة بالعقاب على جرائم الحرب، فإن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 وجهت أحكامها إلى المشرع الوطني وإلى القضاء الوطني في جميع الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف. وإن كانت لم تتضمن أية إشارة إلى القضاء الجنائي الدولي مثل اتفاقية حظر إبادة الجنس البشري لعام 1948 التي أشارت صرخة إلى اللجوء إلى آلية القضاء الجنائي الدولي، فإن اللجوء إلى القضاء الجنائي الدولي يكون ممكناً للعقاب على جرائم الحرب إما عن طريق مجلس الأمن أو عن طريق المحكمة الجنائية الدولية وهو ما سنعرض إليه في الفقرة التالية.

خامساً: آليات احترام القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة غير الدولية

سبق أن أشرنا إلى التمييز بين النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة غير الدولية فيما يتعلق بآليات الاحترام. ومكمن التمييز هنا يرجع إلى أن القانون الدولي الإنساني كان ينطبق في مواجهة أشخاص القانون الدولي العام وهي الدول وحدها، ولذلك اقتصر تعريف وتحديد “الانتهاكات الجسيمة” وهي جرائم الحرب على تلك الانتهاكات التي ترتكب في زمن النزاع المسلح الدولي، على حين أن الخطاب في النزاعات المسلحة غير الدولية موجه ليس إلى الدول فحسب وإنما إلى الجماعات من غير الدول.

وكما أشرنا سلفاً فإن الأحكام المنظمة للنزاعات المسلحة غير الدولية تقتصر على المادة الثالثة المشتركة من إتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977، وكلاهما لا ينص صراحةً على آليات تنفيذ أو رقابة دولية. وجميع المحاولات الرامية إلى إنشاء مثل هذه الآليات أو نظام حقيقي للرقابة الدولية على النزاعات المسلحة غير الدولية اصطدمت بمقتضيات مبدأ السيادة.

واقتصرت آليات الاحترام على الحق في المبادرة الإنسانية المنصوص عليه في المادة الثالثة المشتركة والذي يخول اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تعرض خدماتها على الدولة الطرف المعنية لمساعدة وحماية ضحايا نزاع مسلح غير دولي، فضلاً عن الالتزام بنشر أحكام البروتوكول الثاني كآلية ثانية ورد النص عليها في المادة 19 من البروتوكول الثاني.

وعدا ذلك فلا مجال لتطبيق آلية الدول الحامية ولا إجراءات التحقيق أو تقصي الحقائق على النزاعات المسلحة غير الدولية، ناهيك عن أن نظام الانتهاكات الجسيمة الذي يخلق التزاماً بملاحقة ومعاقبة مجرمي الحرب غير منطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية. وقبل إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لم تكن هناك آلية محددة في القانون الدولي الإنساني لملاحقة ومحاكمة مرتكبي انتهاكات القانون أو لوضع حد لمثل هذه الانتهاكات. ومع ذلك، فإن القاعدة العامة التي تكرسها المادة 1 المشتركة بين اتفاقيات جنيف، تعني أن الأطراف المتحاربة ملزمة بكفالة احترام القانون الدولي الإنساني ومنع انتهاكه والمعاقبة على هذا الانتهاك. وفي الواقع، وفقاً لمحكمة العدل الدولية ينطبق واجب كفالة احترام الاتفاقيات أيضاً على المادة 3 المشتركة، ومن ثم على النزاعات غير الدولية. وينطبق هذا الالتزام على الدول غير الأطراف في النزاع أيضاً.

إن تجريم انتهاكات المادة 3 المشتركة بوصفها انتهاكات لقوانين الحرب وأعرافها أو على النحو المحدد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يمكن أن يحجب حقيقة أن ممارسة الدولة، ناهيك عن ممارسات الكيانات الأخرى من غير الدول، مازالت حديثة من حيث المقاضاة والعقوبة الفعالين عن انتهاكات قوانين وأعراف الحرب في النزاعات الداخلية. ومن ثم، فإن التدابير اللازمة لتنفيذ القانون الدولي الإنساني تقع على عاتق السلطات على الصعيد الوطني بصفة رئيسية.

غير أن القاعدة العامة التي تكرسها المادة الأولى المشتركة بين اتفاقيات جنيف وهي الالتزام باحترام وكفالة احترام أحكام القانون الدولي الإنساني ومنع انتهاكه ومعاقبة هذه الانتهاكات لو وقعت بالفعل، وقد خلصت محكمة العدل الدولية في حكمها بشأن الأنشطة العسكرية وغير العسكرية في قضية نيكارجوا عام 1986،  إلى انطباق هذا الالتزام العام باحترام وكفالة احترام الاتفاقيات على المادة الثالثة المشتركة، ومن ثم على النزاعات المسلحة غير الدولية، ومعنى كفالة الاحترام هنا أن ينطبق هذا الالتزام في حق الدول غير الأطراف في هذا النزاع أيضاً.

خلاصة القول إذن أننا يمكن أن نعول على آليتين هامتين بشأن النزاع المسلح غير الدولي وهي الاتفاقات الخاصة وحق المبادرة الإنسانية.

النزاعات المسلحة غير الدولية

(1) الاتفاقات الخاصة والإعلانات أحادية الجانب

يمكن استكمال القواعد الخاصة بالنزاعات الداخلية على النحو المنصوص عليه في المادة 3 المشتركة والبروتوكول الثاني بتلك القواعد التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية. فمن حيث المادة 3 المشتركة، البند (2)، ينبغي لأطراف النزاع أن تعمل على تنفيذ كل الأحكام الأخرى من الاتفاقية أو بعضها عن طريق اتفاقات خاصة. ومن أجل تفسير القواعد الأولية المتصلة بالنزاعات غير الدولية وجعلها أسهل في الفهم والتطبيق، من الضروري استلهام القواعد الأكثر تفصيلاً المنطبقة على النزاعات الدولية، حيث إن التحديات الإنسانية والعسكرية لكلا النوعين من الحالات تكون متشابهة في معظم الأحيان، ولا يمكن أن يوجد مبرر حقيقي للتمييز بينهما. ويمكن التغلب على المشكلات التي تنشأ حول التصنيف القانوني لنزاع ما بشكل واقعي عن طـريق التوصـل إلـى اتفـاق، حيـث إن هـذا لـن يـؤثر علـى الوضـع القـانوني للأطـراف المتعـاقدة.

ويمكن الدخول في اتفاق بشأن كل أو بعض الأحكام المتصلة بنزاع مسلح غير دولي. وتُعنى هذه الاتفاقات في المقام الأول بأحكام معينة (مثل إنشاء مناطق أمان، وإطلاق سراح السجناء الجرحى بالتزامن في آن واحد، … إلخ). وكانت هناك أيضاً إشارات أوسع إلى معاهدات القانون الإنساني أو إلى أجزاء من معاهدات، على سبيل المثال في حالة النزاع في يوغوسلافيا السابقة. وتكون هذه الاتفاقات الخاصة في أغلب الأحيان نتاج مبادرة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وتعدها غالباً اللجنة الدولية وتُبرَم تحت رعايتها.

تسمح الاتفاقات الخاصة المعقودة بين طرفي نزاع مسلح غير دولي (إما بين دولة وجماعة مسلحة أو بين جماعات مسلحة) بالتزام صريح بالامتثال إلى مجموعة أوسع نطاقاً من قواعد القانون الدولي الإنساني. وقد يكون الاتفاق تأسيسياً إذا تجاوز المعاهدة أو الأحكام العرفية المطبقة بالفعل في السياق المحدد وبالتالي يخلق التزامات قانونية جديدة، أو قد يكون تفسيرياً إذا كان مجرد تكرار للقانون الذي يلزم بالفعل الطرفين بشكل مستقل عن الاتفاق. وكما أشارت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، تطور الفئة الأولى ضمناً القانون العرفي المنطبق على النزاعات المسلحة الداخلية

كما يمكن للجماعات المسلحة الأطراف في نزاعات مسلحة غير دولية أن تصدر إعلاناً من جانب واحد أو “إعلان نية”، تصرح فيه بالتزامها الامتثال إلى القانون الدولي الإنساني أو إلى قواعد محددة منه. هناك تاريخ طويل من إعلانات النوايا العامة أو الجزئية. وتعتبر الوظيفة الأولى للإعلان أحادي الجانب هي تقديم فرصة للجماعات المسلحة للإعراب عن موافقتها على الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، نظراً لأنها لا يمكن أن تصدق أو تصبح رسمياً طرفاً في معاهدات القانون الإنساني.

تعتبر الحجة الأكثر شيوعاً ضد تفعيل الإعلانات من جانب واحد هي أنها غالباً ما يتم اللجوء إليها في محاولة لاكتساب شرعية سياسية، وربما ثمة فرصة ضئيلة لتنفيذ الالتزامات الواردة بها. ومع ذلك، توحي الممارسة أنه حتى لو كان الدافع الأساسي قد يبدو سياسياً، إلا أن المرء بإمكانه الاستفادة من الالتزام الصريح الذي تقدمه جماعة مسلحة، وذلك باستخدامه استراتيجياً كأداة تنفيذية لتعزيز وتحسين الامتثال إلى القانون. وتوفر الإعلانات نقطة دخول، أو “خطوة أولى” ضرورية لتوطيد الاتصال والبدء في حوار. ويمكن للمفاوضات أن تساعد في تحديد طرف مسؤول لبدء تحاور استراتيجي معه والعمل من أجل بناء تفاهم وتحسين إرادة طرف النزاع السياسية وقدرته وممارسته للامتثال.

(2) حق المبادرة الإنسانية

يتبقى حق المبادرة الممنوح للجنة الدولية للصليب الأحمر بمقتضى المادة 3 المشتركة، الفقرة 2، التي تنص على أنه “يجوز لهيئة إنسانية غير متحيزة، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن تعرض خدماتها على أطراف النزاع”. على الرغم من أن اللجنة الدولية لا تحتكر حق المبادرة هذا، إلا أن الدول كرست هذا الحق في النظام الأساسي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر بوصفه تفويضاً دولياً حقيقياً للجنة الدولية للصليب الأحمر.

ويمكن لأطراف النزاع أن ترفض عروض اللجنة الدولية للصليب الأحمر أو أي منظمة إنسانية بحسبان أنها مبادرة لتقديم الخدمات، لا يوجد إلزام بقبولها، ولكن عليها دراستها في إطار الالتزام بعدم رفض عرض قدم بحسن نية وقصد حصراً تقديم المساعدة الإنسانية “لأسباب تعسفية أو تبعاً للأهواء” في واقع الأمر مع متطلبات قانون حقوق الإنسان.

وينبغي توجيه العرض إلى أطراف النزاع. واستناداً إلى نوع النزاع والاحتياجات التي تم التحقق منها، تتقدم المنظمة بعرضها إلى الحكومة أو السلطة المنشقة أو الأطراف المتحاربة الأخرى وذلك بهدف الوصول إلى جميع الضحايا في الأقاليم التي يسيطرون عليها. وقد تقدم عرضاً لطرف واحد على نحو مستقل، حيث أن الشرط الوحيد ذا الصلة هو الطبيعة المحايدة للعملية الإنسانية. وبمجرد قبول هذا الطرف عرضها، تتبنى اللجنة الدولية للصليب الأحمر وجهة النظر القائلة بأنه يحق لها تقديم الخدمات المعنية، بغض النظر عن موافقة الأطراف المتحاربة الأخرى. ومع ذلك، فإن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تلتمس موافقة الحكومة للوصول إلى الإقليم بأكمله، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة مسلحة. ومن أجل أداء مهمتها الإنسانية على أكمل وجه، يجب أن تتمتع المنظمات الإنسانية بثقة كاملة من السلطات التي تسيطر على الإقليم الذي تتم فيه العملية إما بحكم القانون أو بحكم الأمر الواقع. وفي حالة عدم القبول، سواء كان صريحاً أو ضمنياً، سرعان ما يواجه العاملون في مجال المساعدة والمعونة مشكلات في مجالي السلامة والأمن. ولا يهدف عرض الخدمات ببساطة إلى التمكن من إيفاد العاملين في مجال المعونة إلى بلد في حالة نزاع مسلح، فمن خلال هذا العرض تعلن المنظمة الإنسانية أيضاً عن استعدادها لأداء مهام معينة في إطار التفويض الممنوح لها مثل : زيارة المحتجزين لأسباب أمنية والفئات الأكثر ضعفاً داخل صفوف السكان المدنيين، وتوفير المساعدة الطبية والغذائية والمادية، والبحث عن الأشخاص المفقودين، وكذلك كيفية وصول المنظمة الإنسانية إلى مناطق النزاع وتحت أي ظروف.

الخلاصة

عند استعراض الأحكام الخاصة بضحايا الجريمة بصفة عامة أوضحنا ان المبادئ الدستورية والتشريعات العقابية والإجرائية تساير في أغلب أحكامها الاتفاقيات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان. ونجد دائماً منظومة القضاء الوطني من خلال النيابة العامة وهي الأمينة على الدعوى العمومية والدوائر القضائية من بعد تنهض بالدور الرئيسي بإنزال العقاب بالمتهمين والقصاص العادل لضحايا الجريمة . كما أن الحق في التعويض لجب الإضرار المادية والأدبية حتى الموروثة للمجني عليهم والمضرورين من الجريمة مقرر وفقاً للتشريعات الوطنية.

يبقى أن الاتجاهات الحديثة في التشريعات المقارنة تذهب إلى تخصيص أحكام خاصة لحماية المجني عليهم والرعاية التي يجب أن يكفلها القانون لهم ووضع احكام محدده خاصة بحقوق المجني عليهم لم تنل القدر الكافي من الاهتمام في التشريعات العربية وهو الامر الذي يقتضي تدخل المشرع الوطني لسن مثل هذه الاحكام.

وإذا ما انتقلنا لحقوق ضحايا الحرب فإن الأمر يختلف كثيراً من حيث موقف التشريعات الوطنية سواء في مجال النزاعات المسلحة الدولية أو النزاعات المسلحة غير الدولية.

فالأليات العقابية التي وردت في اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولها الاضافي الأول لعام 1977 الخاص بالنزاعات المسلحة الدولية وضعت من الأحكام ما يكفي لأن يقوم كل  قاضي وطني بملاحقة مجرمي قصاصاً للضحايا أي كانت جنسية المتهم أو مكان ارتكاب الواقعة. ولكن القاضي الوطني لا يستطيع إعمالا بمبدأ الشرعية الجنائية أن يتصدى لهذه الجرائم دون قيام المشرع الوطني بسن التشريعات التي تقسم جرائم الحرب ويرى لها العقوبات الملائمة .

أما النزاعات المسلحة غير الدولية فإن ضحاياها يدفعون ثمن غالياً نتيجة غياب الالتزامات الدولية وكذلك التشريعات الوطنية التي تكفل لهم الحماية وهو الأمر الذي نلاحظه اليوم بصفة خاصة في منطقتنا العربية مع تنامي وازدياد إعداد المسلحة غير الدولية.

ونخلص من ذلك إلى أن المنطقة العربية تعاني من عدم إيلاء المشرع الوطني الاهتمام اللازم بضحايا الحرب ونجد لزاما علينا في مثل هذا المنتدى الهام الذي يجمع دول مجلس التعاون الخليجي الست أن نوجه نداءً إلى المبادرة لإعداد مبادئ إرشاديه تطالب المشرع في هذه الدول بإدراج أحكام القانون الدولي الانساني  ضمن المنظومة التشريعية الوطنية لكل دولة.

Menu