bx-arrow-back المقالات

13 مارس، 2022

آليات احترام القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة غير الدولية

عند التقديم لهذا الفصل، أشرت إلى التمييز بين النزاعات المسلحة الدولية والنزاعات المسلحة غير الدولية فيما يتعلق بآليات الاحترام. ومكمن التمييز هنا يرجع إلى أن القانون الدولي الإنساني كان ينطبق في مواجهة أشخاص القانون الدولي العام وهي الدول وحدها، ولذلك اقتصر تعريف وتحديد “الانتهاكات الجسيمة” وهي جرائم الحرب على تلك الانتهاكات التي ترتكب في زمن النزاع المسلح الدولي، على حين أن الخطاب في النزاعات المسلحة غير الدولية موجه ليس إلى الدول فحسب وإنما إلى الجماعات من غير الدول.

وكما أشرنا سلفًا فإن الأحكام المنظمة للنزاعات المسلحة غير الدولية تقتصر على المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977، وكلاهما لا ينص صراحةً على آليات تنفيذ أو رقابة دولية. وجميع المحاولات الرامية إلى إنشاء مثل هذه الآليات أو نظام حقيقي للرقابة الدولية على النزاعات المسلحة غير الدولية اصطدمت بمقتضيات مبدأ السيادة.

واقتصرت آليات الاحترام على الحق في المبادرة الإنسانية المنصوص عليه في المادة الثالثة المشتركة والذي يخول اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تعرض خدماتها على الدولة الطرف المعنية لمساعدة وحماية ضحايا نزاع مسلح غير دولي، فضلاً عن الالتزام بنشر أحكام البروتوكول الثاني كآلية ثانية ورد النص عليها في المادة 19 من البروتوكول الثاني.

وعدا ذلك فلا مجال لتطبيق آلية الدول الحامية ولا إجراءات التحقيق أو تقصي الحقائق على النزاعات المسلحة غير الدولية، ناهيك عن أن نظام الانتهاكات الجسيمة الذي يخلق التزامًا بملاحقة ومعاقبة مجرمي الحرب غير منطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية. وقبل إقرار النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لم تكن هناك آلية محددة في القانون الدولي الإنساني لملاحقة ومحاكمة مرتكبي انتهاكات القانون أو لوضع حد لمثل هذه الانتهاكات.

ومع ذلك، فإن القاعدة العامة التي تكرسها المادة 1 المشتركة بين اتفاقيات جنيف، تعني أن الأطراف المتحاربة ملزمة بكفالة احترام القانون الدولي الإنساني ومنع انتهاكه والمعاقبة على هذا الانتهاك.

وفي الواقع، وفقًا لمحكمة العدل الدولية ينطبق واجب كفالة احترام الاتفاقيات أيضًا على المادة 3 المشتركة، ومن ثم على النزاعات غير الدولية. وينطبق هذا الالتزام على الدول غير الأطراف في النزاع أيضًا.

إن تجريم انتهاكات المادة 3 المشتركة بوصفها انتهاكات لقوانين الحرب وأعرافها أو على النحو المحدد في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا يمكن أن يحجب حقيقة أن ممارسة الدولة، ناهيك عن ممارسات الكيانات الأخرى من غير الدول، ما زالت حديثة من حيث المقاضاة والعقوبة الفعالين عن انتهاكات قوانين وأعراف الحرب في النزاعات الداخلية. ومن ثم، فإن التدابير اللازمة لتنفيذ القانون الدولي الإنساني تقع على عاتق السلطات على الصعيد الوطني بصفة رئيسية.

غير أن القاعدة العامة التي تكرسها المادة الأولى المشتركة بين اتفاقيات جنيف وهي الالتزام باحترام وكفالة احترام أحكام القانون الدولي الإنساني ومنع انتهاكه ومعاقبة هذه الانتهاكات لو وقعت بالفعل، وقد خلصت محكمة العدل الدولية في حكمها بشأن الأنشطة العسكرية وغير العسكرية في قضية نيكارجوا عام 1986، إلى انطباق هذا الالتزام العام باحترام وكفالة احترام الاتفاقيات على المادة الثالثة المشتركة، ومن ثم على النزاعات المسلحة غير الدولية، ومعنى كفالة الاحترام هنا أن ينطبق هذا الالتزام في حق الدول غير الأطراف في هذا النزاع أيضًا.

خلاصة القول إذن أننا يمكن أن نعول على آليتين هامتين بشأن النزاع المسلح غير الدولي وهي الاتفاقات الخاصة وحق المبادرة الإنسانية.

(1) الاتفاقات الخاصة والإعلانات أحادية الجانب

يمكن استكمال القواعد الخاصة بالنزاعات الداخلية على النحو المنصوص عليه في المادة 3 المشتركة والبروتوكول الثاني بتلك القواعد التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية. فمن حيث المادة 3 المشتركة، البند (2)، ينبغي لأطراف النزاع أن تعمل على تنفيذ كل الأحكام الأخرى من الاتفاقية أو بعضها عن طريق اتفاقات خاصة. ومن أجل تفسير القواعد الأولية المتصلة بالنزاعات غير الدولية وجعلها أسهل في الفهم والتطبيق، من الضروري استلهام القواعد الأكثر تفصيلاً المنطبقة على النزاعات الدولية، حيث إن التحديات الإنسانية والعسكرية لكلا النوعين من الحالات تكون متشابهة في معظم الأحيان، ولا يمكن أن يوجد مبرر حقيقي للتمييز بينهما. ويمكن التغلب على المشكلات التي تنشأ حول التصنيف القانوني لنزاع ما بشكل واقعي عن طريق التوصل إلى اتفاق، حيث إن هـذا لن يؤثر على الوضع القانوني للأطراف المتعاقدة.

تسمح الاتفاقات الخاصة المعقودة بين طرفي نزاع مسلح غير دولي (إما بين دولة وجماعة مسلحة أو بين جماعات مسلحة) بالتزام صريح بالامتثال إلى مجموعة أوسع نطاقًا من قواعد القانون الدولي الإنساني. وقد يكون الاتفاق تأسيسيًا إذا تجاوز المعاهدة أو الأحكام العرفية المطبقة بالفعل في السياق المحدد وبالتالي يخلق التزامات قانونية جديدة، أو قد يكون تفسيريًا إذا كان مجرد تكرار للقانون الذي يلزم بالفعل الطرفين بشكل مستقل عن الاتفاق. وكما أشارت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، تطور الفئة الأولى ضمنًا القانون العرفي المنطبق على النزاعات المسلحة الداخلية.

كما يمكن للجماعات المسلحة الأطراف في نزاعات مسلحة غير دولية أن تصدر إعلانًا من جانب واحد أو “إعلان نية”، تصرح فيه بالتزامها الامتثال إلى القانون الدولي الإنساني أو إلى قواعد محددة منه. هناك تاريخ طويل من إعلانات النوايا العامة أو الجزئية. وتعتبر الوظيفة الأولى للإعلان أحادي الجانب هي تقديم فرصة للجماعات المسلحة للإعراب عن موافقتها على الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، نظرًا لأنها لا يمكن أن تصدق أو تصبح رسميًا طرفًا في معاهدات القانون الإنساني.

تعتبر الحجة الأكثر شيوعًا ضد تفعيل الإعلانات من جانب واحد هي أنها غالبًا ما يتم اللجوء إليها في محاولة لاكتساب شرعية سياسية، وربما ثمة فرصة ضئيلة لتنفيذ الالتزامات الواردة بها. ومع ذلك، توحي الممارسة أنه حتى لو كان الدافع الأساسي قد يبدو سياسيًا، إلا أن المرء بإمكانه الاستفادة من الالتزام الصريح الذي تقدمه جماعة مسلحة، وذلك باستخدامه استراتيجيًا كأداة تنفيذية لتعزيز وتحسين الامتثال إلى القانون. وتوفر الإعلانات نقطة دخول، أو “خطوة أولى” ضرورية لتوطيد الاتصال والبدء في حوار. ويمكن للمفاوضات أن تساعد في تحديد طرف مسؤول لبدء تحاور استراتيجي معه والعمل من أجل بناء تفاهم وتحسين إرادة طرف النزاع السياسية وقدرته وممارسته للامتثال.

(2) حق المبادرة الإنسانية

يتبقى حق المبادرة الممنوح للجنة الدولية للصليب الأحمر بمقتضى المادة 3 المشتركة، الفقرة 2، التي تنص على أنه “يجوز لهيئة إنسانية غير متحيزة، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن تعرض خدماتها على أطراف النزاع”. على الرغم من أن اللجنة الدولية لا تحتكر حق المبادرة هذا، إلا أن الدول كرست هذا الحق في النظام الأساسي للحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر بوصفه تفويضًا دوليًا حقيقيًا للجنة الدولية للصليب الأحمر. ويمكن لأطراف النزاع أن ترفض عروض اللجنة الدولية للصليب الأحمر أو أي منظمة إنسانية بحسبان أنها مبادرة لتقديم الخدمات، لا يوجد إلزام بقبولها، ولكن عليها دراستها في إطار الالتزام بعدم رفض عرض قُدم بحسن نية وقصد حصرًا تقديم المساعدة الإنسانية “لأسباب تعسفية أو تبعًا للأهواء” في واقع الأمر مع متطلبات قانون حقوق الإنسان.

وينبغي توجيه العرض إلى أطراف النزاع. واستنادًا إلى نوع النزاع والاحتياجات التي تم التحقق منها، تتقدم المنظمة بعرضها إلى الحكومة أو السلطة المنشقة أو الأطراف المتحاربة الأخرى وذلك بهدف الوصول إلى جميع الضحايا في الأقاليم التي يسيطرون عليها. وقد تقدم عرضًا لطرف واحد على نحو مستقل، حيث إن الشرط الوحيد ذا الصلة هو الطبيعة المحايدة للعملية الإنسانية. وبمجرد قبول هذا الطرف عرضها، تتبنى اللجنة الدولية للصليب الأحمر وجهة النظر القائلة بأنه يحق لها تقديم الخدمات المعنية، بغض النظر عن موافقة الأطراف المتحاربة الأخرى.

ومع ذلك، فإن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تلتمس موافقة الحكومة للوصول إلى الإقليم بأكمله، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة مسلحة. ومن أجل أداء مهمتها الإنسانية على أكمل وجه، يجب أن تتمتع المنظمات الإنسانية بثقة كاملة من السلطات التي تسيطر على الإقليم الذي تتم فيه العملية إما بحكم القانون أو بحكم الأمر الواقع. وفي حالة عدم القبول، سواء كان صريحًا أو ضمنيًا، سرعان ما يواجه العاملون في مجال المساعدة والمعونة مشكلات في مجالي السلامة والأمن.

الفصل الرابع

الآليات العقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني “دور القضاء الوطني والدولي”

الحديث عن الآليات العقابية لتطبيق القانون الدولي الإنساني يتناول جوانب عديدة سواء على مستوى القضاء الوطني أو مستوى القضاء الدولي نحو قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني. ومجال البحث في هذا الفصل لا يتسع ليشمل هذه الآليات القضائية بالتفصيل، وعليه سوف نعرض بإيجاز الآليات العقابية كأحد العناصر المبينة في هذا الفصل ضمن آليات احترام القانون الدولي الإنساني، وقد راعينا ونحن نصدر هذا المؤلف تحت مظلة معهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية، إبراز هذه الآليات لترشد الدارسين والمهتمين من القضاة لمدى أهمية الدور المأمول أن يقوموا به من أجل احترام وكفالة احترام القانون الدولي الإنساني.

والآليات العقابية مناط البحث هي ما ورد من أحكام داخل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 والخاص بالنزاعات المسلحة الدولية، والتي تنصرف أساسًا إلى مفهوم القضاء الوطني، وهذا هو العنصر الأول في الموضوع. كما لا نستطيع أن نغفل دور القضاء الدولي في قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني وهو ما سوف نتناوله أيضًا فيما يلي:

أولاً: الآليات العقابية الواردة في اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الإضافي الأول:

كرست اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول (اللحق) الإضافي الأول لعام 1977 جانبًا كبيرًا من أحكامها لقمع الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني في زمن النزاعات المسلحة الدولية، مؤكدة بذلك على أهمية الجزاء كعنصر هام لأي قاعدة قانونية للإلزام بأحكامها ولردع من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم.

وقبل استعراض الآليات العقابية كما وردت في اتفاقيات جنيف هناك عدة ملاحظات هامة يجدر الإشارة إليها ابتداءً:

أ- قبل إبرام اتفاقيات جنيف لعام 1949 لم تكن هناك نصوص تعرّف جرائم الحرب، إذ إن اتفاقيات جنيف السابقة لعام 1864، 1906، 1929 على التوالي خلت من تدوين مثل هذه الجرائم بين نصوصها.

ب- بإبرام اتفاقيات جنيف لعام 1949 حدثت نقلة هامة في القانون الدولي الإنساني بإقرار مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية لكل شخص ارتكب أو أمر بارتكاب أحد الانتهاكات الجسيمة المنصوص عليها في هذه الاتفاقيات (المواد 49، 50، 129، 146 المشتركة بين الاتفاقيات).

ج- ميزت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وكذلك البروتوكول الإضافي الأول بين نوعين من الانتهاكات، الأول هو الانتهاكات الجسيمة وهي المرادف لجرائم الحرب والتي أوردتها على سبيل الحصر وألزمت الدول بفرض عقوبات جنائية على مرتكبيها. والنوع الثاني هو الانتهاكات التي لم توصف بأنها جسيمة وهي مخالفات لأحكام أخرى غير جرائم الحرب وفي هذه الحالة ألزمت الاتفاقيات الدول بوقف هذه الانتهاكات دون تحديد آليات محددة لذلك، ومن ثم يكون موضع العقاب عليها في تدابير إدارية (تأديبية وعقابية) تتخذها الدول الأطراف.

د- مصطلح الانتهاكات الجسيمة وهو المرادف لجرائم الحرب لم يرد إلا بشأن النزاعات المسلحة الدولية، وبالتالي فإن الجرائم التي قد ترتكب في زمن النزاعات المسلحة غير الدولية لم يرد بشأنها نص في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 في إطار المادة الثالثة المشتركة أو ضمن أحكام البروتوكول (اللحق) الإضافي الثاني لعام 1977 والخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية.

ويمكن إيجاز أهم ملامح الآليات العقابية الواردة في اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكول الإضافي الأول فيما يلي:

1ـ تعريف الانتهاكات الجسيمة:

حددت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 قائمة بالانتهاكات الجسيمة وردت على سبيل الحصر في المواد المشتركة الأرقام (50، 51، 130، 147). واستكمل البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 هذه القائمة بالمادة 11 الفقرة الرابعة والمادة 85 الفقرتان 3، 4  بإضافة فئة أخرى من الانتهاكات، بخلاف تلك المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف بشأن الجرائم التي ترتكب ضد الأشخاص المحميين وهي فئة الجرائم المرتبطة بوسائل وأساليب القتال.

ويمكن من خلال استعراض النصوص سالفة الذكر حصر الانتهاكات الجسيمة فيما يلي:

الانتهاكات الجسيمة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع:

• القتل العمد.

• التعذيب.

• المعاملات اللاإنسانية.

• إخضاع الأشخاص للتجارب الخاصة بعلم الحياة.

• تعمد إحداث آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو الصحة.

• تدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرره الضرورات الحربية، وبطريقة غير مشروعة وتعسفية.

انتهاكات جسيمة مشتركة بين اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة:

• إرغام أسير الحرب أو الشخص المحمي على الخدمة في القوات المسلحة بالدولة المعادية.

• حرمان أسير الحرب أو الشخص المحمي من حقه في أن يحاكم بصورة قانونية وبدون تحيز وفقًا للتعليمات الواردة في اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة.

انتهاكات جسيمة وردت باتفاقية جنيف الرابعة:

• النفي أو النقل غير المشروع.

• الحجز غير المشروع.

• أخذ الرهائن.

انتهاكات جسيمة مضافة بموجب البروتوكول الإضافي الأول:

• جعل السكان المدنيين أو الأفراد المدنيين في المواقع المجردة من وسائل الدفاع أو المناطق منزوعة السلاح هدفًا للهجوم.

• شن هجوم عشوائي على السكان المدنيين أو الأعيان المدنية.

• توجيه هجمات على الأشغال الهندسية أو المنشآت التي تحوي قوى خطرة.

• اتخاذ شخص ما هدفًا للهجوم، مع العلم بأنه عاجز عن القتال.

• الاستخدام الغادر للشارات الحامية.

• نقل دولة الاحتلال بعض سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها أو ترحيل أو نقل كل أو بعض سكان الأراضي المحتلة داخل نطاق تلك الأراضي أو خارجها.

• كل تأخير لا مبرر له في إعادة أسرى الحرب أو المدنيين إلى أوطانهم.

• ممارسة التفرقة العنصرية وغيرها من الأساليب المنافية للإنسانية والمهينة.

• شن الهجمات على الآثار التاريخية وأماكن العبادة والأعمال الفنية.

• حرمان شخص محمي من حقه في محاكمة عادلة طبقًا للأصول المرعية.

تلك هي القائمة الحصرية بالانتهاكات الجسيمة التي وردت باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، والتي ينصرف إليها حكم الفقرة الخامسة من المادة 85 من البروتوكول الإضافي الأول الذي ينص على: “تُعد الانتهاكات الجسيمة للاتفاقيات ولهذا اللحق (البروتوكول) بمثابة جرائم حرب وذلك مع عدم الإخلال بتطبيق هذه المواثيق”، وهكذا صنفت هذه الفقرة جميع هذه الانتهاكات الجسيمة تحت مسمى “جرائم الحرب”.

2ـ كيفية العقاب على جرائم الحرب:

أوردت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 بعد حصر قائمة بالأفعال التي تعد جرائم حرب. ومن خلال استقراء الأحكام الواردة بها يمكن حصر أهم ملامح هذه المنظومة من خلال استعراض الأحكام التي أوردتها المادة المشتركة السابقة على تعريف جرائم الحرب وكذلك المادة المشتركة التالية لها.

 جاء نص المادة المشتركة 49، 50، 129، 146 من الاتفاقيات الأربع لعام 1949، وهي ذات الأحكام المطبقة على البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 بموجب الفقرة الأولى من المادة 85 على ما يلي:

“تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية، المبينة في المادة التالية.

يلتزم كل طرف متعاقد بملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة أو بالأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى المحاكمة، أيًا كانت جنسيتهم، وله أيضًا، إذا فضل ذلك، وطبقًا لأحكام تشريعه، أن يسلمهم إلى طرف متعاقد معني آخـر لمحاكمتهم ما دامت تتوفر لدى الطرف المذكور أدلة اتهام كافية ضد هؤلاء الأشخاص.

على كل طرف متعاقد اتخاذ التدابير لوقف جميع الأفعال التي تتعارض مع أحكام هذه الاتفاقية بخلاف المخالفات الجسيمة المبينة في المادة التالية.

وينتفع المتهمون في جميع الأحوال بضمانات للمحاكمة والدفاع الحر لا تقل ملاءمة عن الضمانات المنصوص عليها بالمادة 105 وما بعدها من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 بشأن معاملة أسرى الحرب”.

وبمطالعة هذا النص نخلص إلى أهم الملاحظات التالية:

(أ) الالتزام باتخاذ الإجراءات التشريعية اللازمة لفرض عقوبات جنائية فعالة:

وفي إطار منطق قانوني سليم جاءت الفقرة الأولى من المادة المشتركة سالفة الذكر لتلبي مقتضيات مبدأ الشرعية الجنائية، إذ إنه بموجب النص صراحةً على تحديد قائمة بجرائم الحرب في إطار هذه الاتفاقيات بما يلبي مبدأ شرعية التجريم، فإن الاتفاقيات لم تورد عقوبات لهذه الجرائم، وإنما ألزمت بموجب هذه الفقرة الأولى كل مشرع وطني على صعيد دولته أن يلبي العنصر الخاص بشرعية العقوبة بإدراج عقوبات جنائية لهذه الأفعال. وبغير النص على عقوبات لهذه الجرائم تظل الاتفاقيات عاجزة عن التطبيق. وفي هذا الشأن فإنه يسعدني أن أضع ملحق بهذا الفصل هو مرسوم بقانون اتحادي رقم (12) لسنة 2017 في شأن الجرائم الدولية، والذي أتاح من خلاله المشرع الإماراتي للقضاء الوطني لديه النهوض بالدور الذي أوكلته إليه المعاهدات الدولية. ويعد هذا القانون من أول التشريعات العربية المتكاملة وندعو المشرعين في باقي الدول العربية إلى أن يسلكوا مسلك المشرع الإماراتي لتتحول الالتزامات الواردة في اتفاقيات جنيف إلى واقع يمكّن القضاء الوطني في دولهم من ممارسة واجبهم في ملاحقة جرائم الحرب.

(ب) مبدأ المحاكمة أو التسليم:

تعد الفقرة الثانية من هذه المادة المشتركة جوهر المنظومة العقابية التي صاغتها اتفاقيات جنيف والبروتوكول الإضافي الأول. فهي تتضمن مبدأين رئيسيين، الأول هو المحاكمة أو التسليم، والثاني هو مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي.

فالركيزة الأولى التي وضعتها هذه الفقرة هي إلزام الدول الأطراف المتعاقدة بملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب وتقديمهم للمحاكمة ووقف أي انتهاك لأحكام القانون الدولي الإنساني، وألزمت ابتداءً كل دولة طرف بالقيام بذلك الالتزام الواجب وتطبيقًا لمبدأ المحاكمة أو التسليم “AutJudicareAutDedere” فإن الدولة الطرف المتعاقدة إن لم ترغب في محاكمة مجرم الحرب على أراضيها فإنها ملزمة بتسليمه لأي دولة طرف أخرى ترغب في محاكمته.

كما أوردت هذه الفقرة مبدأً هامًا آخر وهو أن المحاكمة يجب أن تتم بغض النظر عن جنسية المتهم أو مكان ارتكاب الواقعة، وهو ما يسمى بمبدأ “الاختصاص الجنائي العالمي La Juridiction Pénale Universelle”. هذا المبدأ يقع على عاتق جميع الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف من أجل أن تكون هناك مسؤولية تضامنية بينها لإعمال عنصر الجزاء اللازم لقمع الانتهاكات الجسيمة.

وعلى الرغم من أن اتفاقيات جنيف لعام 1949 كانت من أول الصكوك الدولية التي تسعى إلى ترسيخ مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، إلا أنه بكل أسف لم يكتب له النجاح في مجال ملاحقة مجرمي الحرب على النحو المرجو منه. فأغلب الدول لم تجري التعديلات في التشريعات الداخلية بما يلزم لإنفاذه، كما أن الاعتبارات السياسية نالت من فاعلية هذا المبدأ، فتارة نجد دولاً عدلت عن تطبيقه وتارة أخرى نجد دولاً عديدة تعزف عن إدراجه ضمن منظومتها التشريعية.

ج) ضرورة توفير الضمانات القضائية الأساسية:

وفي الفقرة الأخيرة لهذه المادة المشتركة، ورد النص صراحةً على ضرورة توفير الضمانات القضائية الأساسية وحق الدفاع للمتهمين بارتكاب جرائم الحرب. وهنا تعكس هذه الفقرة حرص الاتفاقيات على إلزام الدول عند محاكمة مجرمي الحرب بتوفير كافة الضمانات القضائية لهم، حتى لا تكون هناك إعدامات أو عقوبات دون محاكمة عادلة وحتى يكون إنزال العقاب بهؤلاء المجرمين متفقًا وجميع المواثيق والصكوك الدولية ذات الصلة بالمحاكمات العادلة.

وكما ذكرنا فإن هذه الملاحظات الواردة في المادة المشتركة التي تسبق النص على جرائم الحرب، فإن المادة المشتركة اللاحقة للنص على جرائم الحرب وهي المواد المشتركة أرقام (51، 52، 131، 148) من الاتفاقيات الأربع يجري نصها على ما يلي:

“لا يجوز لأي طرف متعاقد أن يتحلل أو يحل طرفًا متعاقدًا آخر من المسؤوليات التي تقع عليه أو على طرف متعاقد آخر فيما يتعلق بالمخالفات المشار إليها في المادة السابقة”.

والنص في هذه المادة صريح على عدم جواز التنازل عن الالتزام بالملاحقة القضائية ولا إبرام أي اتفاق ثنائي أو متعدد الأطراف لتعطيل هذا الالتزام. ومع صراحة النص يمكننا القول أن اتفاقيات جنيف واجبة النفاذ في مجال الملاحقة القضائية لمجرمي الحرب ولو اتفق أي من الأطراف المتعاقدة على غير ذلك.

تلك هي النصوص الخاصة بكيفية العقاب على جرائم الحرب التي صاغتها اتفاقيات جنيف والتي تكفل لكل طرف من الأطراف المتعاقدة أن يحترم هذه الاتفاقيات وأن تكفل احترام باقي الأطراف لها في ضوء ما ورد عليه النص من التزامات بموجب المادة الأولى المشتركة بين الاتفاقيات الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977.

وكما يلاحظ على الأحكام الخاصة بالعقاب على جرائم الحرب، فإن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 وجهت أحكامها إلى المشرع الوطني وإلى القضاء الوطني في جميع الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف. وإن كانت لم تتضمن أية إشارة إلى القضاء الجنائي الدولي مثل اتفاقية حظر إبادة الجنس البشري لعام 1948 التي أشارت صراحةً إلى اللجوء إلى آلية القضاء الجنائي الدولي، فإن اللجوء إلى القضاء الجنائي الدولي يكون ممكنًا للعقاب على جرائم الحرب إما عن طريق مجلس الأمن أو عن طريق المحكمة الجنائية الدولية وهو ما سنعرض إليه في الفقرة التالية.

ثانيًا: دور القضاء الجنائي الدولي في قمع جرائم الحرب:

إن الحديث عن دور القضاء الجنائي الدولي في ملاحقة وقمع جرائم الحرب، لا تتسع له هذه الدراسة، ولكن لا يمكن لنا أن نغفل دور القضاء الدولي ونحن نتحدث عن الآليات العقابية لقمع الانتهاكات الجسيمة لأحكام القانون الدولي الإنساني. ولذلك نشير فقط إلى عدة عناصر تعيننا في إيضاح هذا الدور.

وجدير بالذكر أن اتفاقيات جنيف لعام 1864، 1906، و1929 على التوالي، لم تورد التزامات صريحة على الأطراف المتعاقدة بإنزال العقاب على مرتكبي جرائم الحرب، كما أنها لم تتضمن نصوصًا تعرف جرائم الحرب، وإنما كانت الاتفاقيات الأربع لعام 1949 هي السباقة إلى تعريف جرائم الحرب وإنشاء الالتزامات الصريحة على عاتق أطرافها بملاحقة ومعاقبة مجرمي الحرب.

وقبل إنشاء منظمة الأمم المتحدة، تشكلت ثلاث لجان تحقيق دولية ومحكمتان عسكريتان دوليتان. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى أنشأ الحلفاء المنتصرون أول لجنة تحقيق دولية سميت “لجنة تحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات”. وإعمالاً لنصوص المواد 227، 228، 229 من معاهدة فرساي كان يلزم محاكمة قيصر ألمانيا ويلهلم الثاني على إشعال الحرب وضباط الجيش الألماني على خرق قوانين وأعراف الحرب، إلا أن الأمر خلص في النهاية إلى إحالة 45 متهمًا من بين 895 متهمًا أوردت لجنة التحقيق أسماءهم إلى محكمة ألمانية في مقاطعة ليبزج.

وفي أعقاب المآسي التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، وعقب انتصار الحلفاء، شكلت القوى المتحالفة لجنتين للتحقيق، الأولى سميت لجنة الأمم المتحدة لجرائم الحرب عام 1943 أسفرت عن محاكمة مرتكبي الجرائم ضد السلام، جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أمام محكمة نورمبرج عام 1945، واللجنة الثانية وتسمى لجنة الشرق الأقصى عام 1945 أسفرت عن ذات المحاكمات لمرتكبي الجرائم في الشرق الأقصى في طوكيو عام 1946.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد محاكمات نورمبرج وطوكيو، وعلى الرغم من تعدد النزاعات المسلحة ووحشيتها إلا أنه لم تُنشأ أية آلية للتحقيق أو المحاكمة، وعانت العدالة الجنائية الدولية من الحرب الباردة حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي.

ومع نهاية الحرب الباردة بدأ مجلس الأمن في تفعيل اختصاصاته بموجب الفصل السابع من الميثاق وفي مواجهة كارثتين إنسانيتين هزتا ضمير المجتمع الدولي في كل من يوغوسلافيا السابقة ورواندا.

فبشأن ما جرى في إقليم يوغوسلافيا السابقة، شكل مجلس الأمن لجنة للتحقيق في جرائم الحرب وانتهاكات القانون الدولي الإنساني بموجب القرار رقم 780 سنة 1992، أصدر على أثرها مجلس الأمن القرار رقم 827 بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لعام 1993 وتختص بالعقاب على الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1949، مخالفة قوانين وأعراف الحرب، الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وتجري محاكماتها في مدينة لاهاي.

أما بشأن رواندا، فقد شكل مجلس الأمن بموجب القرار رقم 935 عام 1994 لجنة للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني التي ارتكبت على إقليم دولة رواندا، وقام على أثرها بإصدار قراره رقم 955 لسنة 1994 بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والتي اختصت بالعقاب على الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الإبادة الجماعية، ونظرًا لطبيعة النزاع لكونه نزاعًا مسلحًا غير دولي فقد اختصت بالعقاب على الانتهاكات الجسيمة التي وقعت بالمخالفة للمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 والخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية، وتجري المحاكمات على إقليم دولة تنزانيا في مدينة أروشا.

والعدالة الجنائية الدولية التي أقامها مجلس الأمن شأنها شأن محاكمتي نورمبرج وطوكيو هي جميعًا محاكم جنائية خاصة نشأت بنظام خاص مؤقت للعقاب على جرائم محددة “Ad – Hoc Tribunaux”.

وكان من الممكن لمجلس الأمن أن يلعب دورًا أساسيًا مكملاً للدور المنوط بالدول الأطراف في اتفاقيات جنيف لعام 1949، إلا أن هذه العدالة الجنائية الخاصة تأثرت بعاملين أساسيين، الأول هو الاعتبارات السياسية التي حالت في كثير من الأحيان دون إعمال عدالة مجلس الأمن بصورة كاملة، حيث كان حق النقض أو الفيتو حائلاً دون إحالة كثير من الانتهاكات للمحاكم الجنائية الخاصة والعامل الثاني هو عامل اقتصادي حيث إن العدالة الجنائية الخاصة كانت تكاليفها باهظة وحملت ميزانية الأمم المتحدة بأعباء كثيرة.

وبعد هذه اللمحة، نستطيع أن نخلص إلى حقيقة هامة، وهي أن العالم كان بحاجة إلى جهاز قضائي دولي دائم يمارس اختصاصًا عامًا على الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني ليكون له دور أفعل وأقوى في ملاحقة مجرمي الحرب وهو ما تحقق بإبرام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في روما عام 1998. هذا النظام الأساسي الذي دخل حيز النفاذ اعتبارًا من 1/7/2002 ويبلغ عدد الدول المصادقة عليه حتى الآن 126 دولة، جاء ليحقق حلمًا طالما راود الأذهان بأن تكون هناك عدالة جنائية دولية دائمة في مجال مكافحة الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني.

ولسنا هنا في مجال استعراض أو شرح النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإنما سنقصر الحديث على أربعة عناصر هامة نراها تنسجم والحديث عن الآليات العقابية لقمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني وهي: طبيعة المحكمة الجنائية الدولية، وعلاقتها بالقضاء الوطني ثم أخيرًا مفهوم جرائم الحرب وفقًا للنظام الأساسي، ونختم الحديث بآخر التطورات التي خلص إليها المؤتمر الدولي الأول لمراجعة النظام الأساسي والذي انعقد مؤخرًا في مدينة كمبالا خلال الفترة من 31/5 وحتى 11/6/2010.

(أ) طبيعة المحكمة الجنائية الدولية:

أنشئت المحكمة الجنائية الدولية بموجب اتفاقية دولية متعددة الأطراف، وليدة مفاوضات اتخذت شكلها النهائي في 17 يوليو/ تموز 1998، وبحسبان أنها معاهدة دولية فالدول ليست ملزمة بالارتباط بها رغمًا عنها إعمالاً “لمبدأ الرضائية”. وقد نصت المادة 120 من النظام الأساسي للمحكمة على عدم جواز وضع أي تحفظ عليه، وبالتالي فإن الدول بإرادتها إما أن تصادق عليه كله أو لا تصادق عليه. ولكن المادة 13 من النظام الأساسي خرجت على هذه القاعدة العامة بأن خولت مجلس الأمن متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة أن يحيل إلى المدعي العام إحدى الحالات التي يبدو فيها ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في هذا النظام. وفي تلك الحالة تجد الدولة- وهي لم تصادق على النظام الأساسي- نفسها ملزمة بأحكام النظام الأساسي، فيما يعد خروجًا على مبدأ نسبية أثر المعاهدات التي لا تلزم إلا أطرافها. إلا أن الدول عند التفاوض على النظام الأساسي أقرت بهذا الحق استثناءً لمجلس الأمن، عندما يتصرف بموجب الفصل السابع مـن ميثاق الأمم المتحدة.

وهذه المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب نظام روما تمتاز عن المحاكم السابقة التي أنشئت في نورمبرج وطوكيو والمحكمتين الجنائيتين ليوغوسلافيا السابقة ورواندا وجميعها محاكم جنائية دولية خاصة أنشئت لغرض محدد وتزول عن الوجود بانتهاء مهمتها، في أنها محكمة دولية دائمة وصاحبة اختصاص عام، وبالتالي عني النظام الأساسي بصياغة العلاقة بين هـذه المحكمة وبين القضاء الوطني.

(ب) علاقة المحكمة الجنائية بالقضاء الوطني:

لما كانت المحاكم الجنائية الخاصة مثل محكمتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا كانت تمنح أفضلية على القضاء الوطني، فلو كان المتهم مطلوبًا مثوله أمام إحدى هذه المحاكم الخاصة، فإنه يمتنع على القضاء الوطني محاكمته وعليه إحالته للمحكمة الجنائية الخاصة.

أما المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، فهي منشأة لتكون جهازًا قضائيًا دوليًا دائمًا، ولذلك وضع نظامها الأساسي قواعد العلاقة مع القضاء الوطني للدول بصورة مخالفة، فمنح الأفضلية في هذه الحالة للقضاء الوطني، ونشير بدايةً لما ورد بالفقرة العاشرة من ديباجة النظام الأساسي والتي تؤكد على أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية. وهي ذات العبارة التي وردت صراحةً في المادة الأولى من نظامها الأساسي.

على حين نصت المادة (17) من النظام الأساسي على أن المحكمة الجنائية الدولية لا تحل محل الاختصاصات القضائية الوطنية، وإنما تتدخل حصرًا حينما لا تتوافر لدى الدول الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك. ومن ثم يتضح أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية يشجع الدول على ممارسة سلطاتها القضائية على الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، ولا يجوز للمحكمة ممارسة سلطاتها إلا إعمالاً للأحكام الواردة في المادة (17).

ونرى أن النظام الأساسي بذلك يدعم المنظومة العقابية التي صاغتها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، عندما ألزمت الدول الأطراف فيها بملاحقة مجرمي الحرب ومحاكمتهم. فالنظام الأساسي بذلك يذكر الدول بالتزاماتها التعاقدية المترتبة على التصديق على اتفاقيات جنيف، فإن هي لم ترغب في ذلك أو لم تكن قادرة فإن الاختصاص ينعقد للمحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يصبح معه القول أن الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف لعام 1949 لو كانت قد طبقت الأحكام التي وردت فيها لما كانت هناك حاجة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية للعقاب على جرائم الحرب، ولكن هذا لم يتحقق قبل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، ولذلك كان من أهم أهدافها ألا تمر جرائم الحرب بغير عقاب لسد فراغ كبير في مجال العدالة الجنائية، عانى وما زال يعاني منه المجتمع الدولي حتى اليوم.

(ج) مفهوم جرائم الحرب وفقًا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية:

أوردت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 الخاص بالنزاعات المسلحة الدولية التزامًا على كافة الدول الأطراف فيها بسن تشريعات جنائية على الأفعال التي تشكل جرائم حرب. وعلى كل دولة ملزمة بمواءمة تشريعاتها الوطنية بحيث تتمكن من العقاب على جرائم الحرب. ومفهوم جرائم الحرب وفقًا لاتفاقيات جنيف والبروتوكول الأول يؤثم مجموعة من جرائم الحرب على أساس المسؤولية الجنائية الفردية لمرتكبيها في زمن النزاع المسلح الدولي. وبالتالي فإن الالتزام باعتماد أحكام عقابية ينصرف فقط إلى هذه الفئة من الجرائم، وبذلك يخرج من نطاق جرائم الحرب كل الانتهاكات الأخرى لأحكام اتفاقيات جنيف وبروتوكولها الأول التي لا توصف بأنها انتهاكات جسيمة بالإضافة إلى كل الجرائم التي ترتكب في زمن نزاع مسلح غير دولي.

وبالنظر إلى الأحكام الخاصة بالنزاعات المسلحة غير الدولية نجد أن المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 لم تشتمل على أية أحكام خاصة بتحديد جرائم حرب قد ترتكب في زمن النزاع المسلح غير الدولي، وهذا النزاع في النصوص القانونية جعل اللجوء إلى القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني سندًا لتقرير المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي ترتكب في زمن النزاع المسلح غير الدولي، وهذا المبدأ أقرته عديد مـن المحاكم الدولية والوطنية، كمـا ورد ضمن التشريعات الوطنية لعديد مـن الدول.

وبموجب اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ودخوله حيز النفاذ خرج إلى حيز الوجود جهاز قضائي دولي يختص بالعقاب على الجرائم الجسيمة التي تمس المجتمع الدولي، وهي الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

وإذا كانت الدول التي صدقت على هذا النظام الأساسي لها مصلحة في مواءمة تشريعاتها الوطنية مع نظام روما حتى تحتفظ بأولوية الاختصاص لقضائها الوطني إعمالاً لمبدأ التكاملية فإن هذه الدولة تكون دائمًا حريصة على الأخذ بمفهوم جرائم الحرب كما ورد بالمادة (8) من نظام روما.

ولكن ما هو موقف الدول التي لم تصدق على نظام روما، هل عند مواءمة تشريعاتها العقابية مع أحكام القانون الدولي الإنساني تتقيد بمفهوم جرائم الحرب كما ورد باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 ولحقها الإضافي الأول، أم تأخذ بالتعريف الوارد بنظام روما على الرغم من أنها ليست طرفًا فيه؟

وللإجابة عن هذا التساؤل يجب أن أشير بدايةً إلى أن ما تم التوصل إليه كمفهوم لجرائم الحرب في المادة (8) من النظام الأساسي هو ما استقرت عليه الاتفاقيات الدولية ذات الصلة والقواعد العرفية بشأن الأفعال التـي تشكل جرائم حرب. وما ورد بالمادة سالفة الذكر يعتبر في حقيقة الأمر تعريفًا تفصيليًا للأفعال التي أوردتها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 ولحقها الإضافي الأول وما استقر بموجب الاتفاقيات الدولية الأخرى وأعراف القتال. وهو الأمر الذي حسمه المشرع الإماراتي وفقًا للقانون الملحق بهذا الفصل.

إذًا لا خلاف بشأن الجرائم التي ترتكب في زمن النزاع المسلح الدولي بينهما، ومن ثم يكون من الأوفق أن يؤخذ بالتعريف الوارد بالمادة (8) من النظام الأساسي لأن ذلك يحقق الاعتبارات التالية:

• التعريف الوارد بالمادة (8) من نظام روما يمثل في حد ذاته إطارًا عرفيًا ملزمًا قانونًا لكافة الدول، حتى التي لم تصدق عليه، بحسبان أنه يعكس تعريف جرائم الحرب وفقًا لما استقرت عليه الممارسات الدولية.

• عند إجراء تعديل تشريعي الآن يجب أن ينظر إلى مفهوم جرائم الحرب وفقًا للمادة (8) بحسبان أن الدول التي لم تصدق على نظام روما قد تنضم في يوم من الأيام إلى هذا النظام، ومن ثم يكون لديها البنية التشريعية الملائمة للانضمام دون حاجة إلى إجراء تعديلات تشريعية.

والخلاصة إذًا في هذا الشأن أنه يكون من الأفضل عند مواءمة التشريعات الوطنية مع أحكام القانون الدولي الإنساني في الدول التي لم تصدق على نظام روما أن يأخذ المشرع بما أوردته المادة (8) من نظام روما، بحسبان أنه يعكس إرادة الدول أطراف المجتمع الدولي التي شاركت في صياغتها وبحيث يكون التشريع الوطني متفقًا مع آخر المتغيرات على الساحة الدولية في هذا الشأن.

تلك هي الأحكام التي رأينا إلقاء الضوء عليها من بين الأحكام التي أوردها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والتي تهدف مباشرةً إلى دعم المنظومة العقابية عن جرائم الحرب وفقًا لذات المنهج الذي صاغته اتفاقيات جنيف وبروتوكولاها الإضافيان وما تم استحداثه من مفهوم أوسع لجرائم الحرب بموجب النظام الأساسي.

Menu